بناء الدولة 2

بسم الله الرحمن الرحيم

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

      وبعد:
      فإن بناء الدولة في بلد مسلم على وجه صحيح لا يتعثر، يتطلب ضرورة اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، ونبذ النزاع والفرقة، فالاختلاف والانقسام معناه الفشل والضعف والهوان، والتمكين للأجنبي وهيمنته، وهذه مسلّمات عند العقلاء، دلت عليها قطعيات الشريعة وثوابتها، ونطق بها كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال تعالى: ( وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ )(الأنفال آية 46) ( واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ )(آل عمران آية 103) ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ )(آل عمران آية 105).

     والطريق الموصل إلى جمع الكلمة يبدأ بالتوافق على الثوابت المجمع عليها ولا اختلاف فيها بين المسلمين، وتركِ الاجتهادات والمسائل الخلافية، للحوار بالحسنى والمودّة وطيِّب الكلام.

     والبيان الذي صدر عن التجمع الإسلامي لتحكيم الشريعة أول أمس، كان جيدا موفقا في لغته وخطابه، وفي فحواه ومضمونه، فقد أظهر حرصا على المودة والقرب من المخالف، يدل على تبصر وفهم لمقتضيات المرحلة، وإدراك للمسؤولية، ومعرفة بالواقع المؤلم وخطورته.

     ومن الثوابت التي إن حصل عليها توافق بين الجماعات، قرُبت المسافات وجعلت أمر الناس واحدا ـ التأسيس لثقافة جديدة، برجوع الجماعات كلها بتسمياتها المتعددة إلى اسم واحد وشعار واحد هو اسم الإسلام، وشعار الإسلام، الذي اختاره الله تعالى لنا، وسمانا به من قبل وفي هذا، فنتسمى به وحده ونطبقه سلوكا على منهج السلف الصالح، كما كان الحال على عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم نتسم به شعارا وبذلك نتخلص من كل التسميات والتحزبات، التي تحولت بفعل العصبيات إلى أسماء شرعية، صار لها ولاء وبراء وهجر ووصل، وقطيعة وود، ونفور وقرب، وأخوة وبغض، يتجذر ويتعمق يوما بعد يوم، يغذيه التعصب، ويعمّقه الحرص على الغلبة، فيتوالد في جسم الأمة ويتكاثر كما تتكاثر خلايا المرض، فما من جماعة إلا وتنقسم على نفسها، وداخل كل جماعة تحدث جماعة تتفرع عنها وتنقسم، ولا تعدم الجديدة اسما ولا تكون مع التي تفرعت عنها ولا مع غيرها على وفاق، بل على هجران وقطيعة وكأنهما على دينان، وهذا أحدث شرخا كبيرا في الأمة شغلها بنفسها، وألهاها عن كبير قضاياها.

 لم لا نرجع لما كان عليه سلفنا الصالح قبل ظهور هذه التسميات والتحزبات؟ فنرجع إلى اسم الإسلام، كما سمانا الله،  ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ) (الحج آية 78) ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ )(النمل آية 91) ( فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ )(يونس آية 84) ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )(آل عمران آية 52)، هذه التسميات غير اسم الإسلام تسميات محدثة ما أنزل الله بها من سلطان، وهي وإن تساهل في التسمي بها بعض أهل العلم، فذلك قبل تحولها من أسماء عرفية يُقصد بها تعاون أهلها على الحق ـ إلى أسماء شرعية، عليها ولاء وبراء، وإنكار من أهلها عنمن لا ينظم لها كما هو الحال الآن، سئل مالك رحمه الله من هم أهل السنة والجماعة؟ فقال :(هم الذين ليس لهم لقب ينعتون به)، وقال الشيخ محمد بن العثيمين رحمه الله تعالى في تسجيل صوتي له: (ظهرت طوائف من قديم الزمان؛ خوارج ومعتزلة وجهمية وشيعة، ثم ظهر أخيرا إخوانيون وسلفيون وتبليغيون وما أشبه ذلك،  كل هذه  الفرق اجعلها على اليسار، وعليك بالإمام، وهو ما أرشد إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، ولا شك أن الواجب على جميع المسلمين أن يكون مذهبهم مذهب السلف، لا الانتماء إلى حزب معين يسمى السلفيين)

فالسلفية كانت في العهد الأول سلوكا ومنهجا وصارت اليوم حزبا ورسما.

     ليس هناك اسم أحسن من اسم الإسلام  ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت آية 33) فالمسلم لا يحتاج مع اسمه إلى لقب آخر، لا صوفي ولا سلفي ولا تبليغي ولا تحريري ولا أنصار شريعة ولا جهادي ولا تكفيري، ولا قاعدة ولا إخواني، ولا أي شيء آخر غير اسم الإسلام، فقد صارت هذه النعوت عنوانا للموالاة والمعادة، وصارت ألفاظا شرعية، يرمي بعض أصحابها بعضا بالتبديع والتضليل، والشرك والتكفير، ويخشى أن تتحول مع الأيام والغلو فيها إلى ملل ونحل، فالكلمة إذا أصابها الغلو قد تتحول إلى ملة

يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (فلا يجوز إحداث واختراع شعارات وألقاب، لم يرد بها الشارع، فإنها: (تكون في البداية كلمة، وفي النهاية مذهب ونحلة)! فلا تغتر وإن زخرفه أهل الأهواء) ويقول الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: (إن الأديان الباطلة تكون في البداية كلمة وفي النهاية ملة) كما حصل في اليهودية والنصرانية، فاليهودية جاءت من قولهم: (هُدنا)، أي: تبنا ورجعنا، والنصرانية جاءت من قول الحواريين: (نحن أنصار الله)، ففي البداية هذين الاسمين ليس فيهما ما ينكر، لكن مع الأيام تحولتا إلى ديانة باطلة.

 بل حتى كلمة الجماعة التي قد تعني في الوقت الحاضر جماعة خاصة، كانت في العصر الأول تعني مجموع الأمة، ففي حديث حذيفة في الفتن، (قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك) قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) (فاعتزل تلك الفرق كلها) (صحيح البخاري حديث رقم: 3411)

    فهل تستعيد الأمة عافيتها وتنعم يوما ما، بهذا الحلم، وتتخلى عن هذه التحزبات والتسميات الضيقة التي فرقتها، إلى رحابة اسم الإسلام وأخوّته، التي لا تستثني من أهل لا إله إلا الله أحدا؟

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

الأحد 27 ذو القعدة 1433 هـ

14 أكتوبر 2012 م

التبويبات الأساسية