الاستعانةُ بغير المسلمين، ومسألةُ الولاءِ والبراءِ

 بِسْم الله الرحمنِ الرحيمِ

 

ما كُتب مؤخرًا في مسألةِ التدخلِ الأجنبي - سواء على الحكم عليها، أو في نقد وتقويم ما نشر حولها - ما يدعو فيه إلى التوقف والتأملِ أمران:

الأول- إغفالُ علاقةِ حكمِ التدخلِ الأجنبي، الذي تبيحُه الضرورةُ، بمسألةِ الولاءِ والبراءِ، وإغفالها عند البحث العلمي خللٌ جوهري في الموضوع.
فالحكم الأصلي في الاستعانة بالأجنبي - كما هو معلوم - المنعُ، وهذا المنع قائمٌ في فحواه ومعناه على حرمةِ الموالاةِ لغير المسلمين.
فمسألة الولاء والبراء لا يمكن إغفالها، عند الكلام على أيّ تعاونٍ أو تحالفٍ، يقعُ بين المسلمين وغير المسلمين، وبخاصة في أمر مِن شؤونِ النّصرةِ والقتالِ.
لذا نجدُ كلامَ الفقهاء في الاستعانة بغير المسلمين، كلّه يدورُ على آياتِ الولاءِ والبراءِ، التي بيّنها وفصَّلَها القرآنُ أتمَّ بيانٍ.
قال الله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).
وقال الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وقال تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ).
فالضرورة المبيحةُ للتدخل التي تكلم عنها الفقهاء، تعدُّ كالاستثناء مما دلّت عليه هذه الآيات، وهي ضرورة محددةٌ مضبوطةٌ عندهم، وليست مطلقةً، ووصفُها - كما يؤخذُ مِن كلامِهم – كالآتي:

1- هي ضرورةُ خوف أهلِ الحقّ، المناصرين لمن يقيمُ شرعَ الله ودينه، مِن أنْ يجتاحَهم أهلُ الباطل، قال الجصاص في أحكام القرآن: "بحيثُ مَتَى ظَهَرُوا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الظَّاهِرُ".
2- أنْ يكونَ غيرُ المسلمِ المستعانُ بهِ وقتَ الاستعانةِ بهِ مأمونًا، حسنَ الرأيِ في المسلمينَ.
3- أن يكونَ مَن يطلبُ الاستعانةَ بهم مناصرًا لأهلِ الحقّ، منابذًا لأهلِ الباطلِ، مالكًا لأمرهِ، قادرًا أنْ يقولَ للظالمين لا، غيرَ موالٍ للعدوّ، ولا واقع تحتَ سلطانِه ونفوذِه، بأن يكونوا كمَا وصفَهم اللهُ: (أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ).

هذه هي الضرورة الشرعية، التي يتكلم عنها أهل العلم في هذا الباب، وهذه هي شروطُها.
فمن كان مِن أهلها - على هذا الحالِ الذي وصفتُ مِن كلامِهم - فقد وُجدَت في حقّه الضرورة التي تبيح الاستعانة بهم، على خلافِ الحكمِ الأصليّ بالمنعِ، الذي دلّت عليهِ آياتُ الولاءِ والبراءِ، ودلَّ عليه قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم لمَن لحقَ به مِن المشركينَ في بدرٍ: (ارجِعْ، فإنّي لا أستعينُ بمُشرِكٍ) [رواه مسلم].
والأخذ بهذه الضرورة دلَّ عليه قول الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).
أما مَن يتصدّى للكلامِ على الضرورةِ في الاستعانةِ بغير المسلمين، دونَ مراعاةِ ضوابطِ الولاءِ والبراءِ، فكحاطِبِ لَيلٍ.

الأمر الثاني- توارُدُ الكاتبينَ على أنّ تقدير الضرورة الشرعية في مسألة الاستعانة بالأجنبيّ، هو مِن الشأنِ السياسي، وليس الفقهيّ، والمسائلُ السياسيةُ الحكمُ عليها متغير، وما يصدرُ في شأنِها - حتى مِن أهل الاختصاصِ، ومجالس العلماء والبحوث والإفتاءِ - ليس أحكامًا فقهيةً، وإنما هو آراءٌ سياسيةٌ لأصحابِها، لا تختلفُ عن رأيِ غيرِهم مِن السّاسة، أو أصحابِ المِهن الأخرى، هكذا قالوا،
وسببُ ذلك في ظنّهم أنّ أمورَ السياسةِ اجتهاداتٌ في نوازلَ، ليس فيها نصوصٌ مباشرةٌ مِن الوحي، والاجتهادُ في مثلِها الناسُ فيه سواءٌ.
هذا خلاصة ما تواردوا عليه.
والسؤالُ الذي يُبادر الأذهانَ، ولا يقدر الصبر عليه:
هل يمكن فعلا أن يستويَ فيما نحنُ فيه من النوازل، سياسية أو غير سياسية، اجتهادُ مَن كابدَ العلومَ الشرعيةَ، وعكفَ على تحصيلِها منذُ نعومةِ أظفاره الليلَ والنهارَ، وتنقّلَ بين معالمِها ومعاهدِها وشيوخِها، ورحلَ في طلبِها، معَ اجتهادِ مَن طَلَبَ غيرَها؟ !
هل الفريقانِ عندَ عقلاءِ الناس - بله مَن ينتسبون إلى هذا المشرب - في الحكمِ على النوازل سواء؟!
إنّها لتسويةٌ عجيبة، والتواردُ عليها مِن بعض الكاتبينَ أعجبُ!
تسويةٌ بينَ مختلفَين طبعًا وشرعًا! هي كالتسويةِ بين العلمِ والجهلِ !
كالتسوية بينَ رأي النجار والتاجر، والفلاح والطبيبِ في مسألةٍ طبيةٍ.
الطبعُ لا يقبل هذه التسوية، والشرعُ في كلامِ الله ينفيها: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
والله يأمرُ مَن طلبَ الحقَّ - في كلّ ما أشكلَ عليهِ - بالتعلقِ بأهلِ الذكرِ، قالَ تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، ولو كان أهل الذكر وغيرُهم سواء، لَمَا كان لتخصيصهم دون غيرهِم فائدة.
وذكَر اللهُ طالوت أحد ملوكِ بني إسرائيل في كتابه، لم يكن نبيًّا يوحَى إليه، لكن كما ذكر الله زادَه بسطةً في العلمِ والجسم، اجتهدَ في أمرٍ يختبرُ به صدق جنودَه، ليسَ له فيه من الله وحيٌ، ثمّ نسبَهُ إلى اللهِ، ولم ينسبهُ إلى رأيِهِ، فقال: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ)، فهل رأيه كان كرأي غيره؟ !
والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن العلماء إنّهم ورثةُ الأنبياء، وجعل لمن ملك منهم أدواتِ الاجتهاد أجرانِ إن أصابَ، وأجرًا إن أخطأ.
فهل رأيهم - مع اختصاصهم بهذا الأجر في شأنِ ميراثِ النبوةِ فعلا - يكونُ كرأي غيرهم؟!
وابن القيم رحمه الله سماهُم الموقّعين عن الله، وسمّى كتابَه إعلام الموقعينَ، فهل أٓعطَى أحدٌ لغيرهم هذا الوصفَ الخطيرَ الشأن؟
وعلماءُ الأصولِ قالوا: "إنّ المجتهدَ - أيْ مَن ملك أدوات الاجتهادِ في علومِ الشرعِ - يصحّ له أنْ يقولَ فيما ظهرَ له باجتهاده: إنهُ دينُ الله".

هذا ما قاله مَن همْ أهلُ هذا الشأنِ؛ لمِا ظهرَ لهم مِن الأدلة على ذلك، ولكن غيرُهم له رأي آخر !
فيَا مَن الظنّ بهم الذودُ عنْ حصونِ الإسلام، لا تكونوا عونًا لأعدائِه على إسقاطِ هيبتِه، فإن إسقاطَ هيبةِ العلماءِ مِن إسقاطِ هيبةِ الإسلامِ.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الإثنين 12 ذو القعدة 1437 هـ
الموافق 15 أغسطس 2016 م
.

التبويبات الأساسية