البطانة والحاشية (الحلقة الأولى)

مقال البطانة والحاشية (الحلقة الأولى)
بسم الله الرحمن الرحيم
 
خاطب الله من ولاه ولاية كبيرة أو صغيرة على المؤمنين بقوله: (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا).
والبطانة: هي الحاشية والمستشارون المقربون من صُناع القرار، على مستوياتهم المختلفة، من رئاسة الدولة فما دون؛ من وزارات ومؤسسات وإدارات، صغرت أو كبرت.
والبطانة المنهي عن اتخاذها في الآية وصفها الله تعالى بقوله: (مِنْ دونكم لا يألونكم خبالا).
وتتناول نوعين:
النوع الأول: البطانة المتخذة من غير المسلمين من اليهود والنصارى، من الأمريكان والفرنسيس والانجليز وغيرهم من أمثالهم، وهو ما يفعله حكام العرب المسلمين في أيامنا، يتخذون من غير المسلمين بطانة ومستشارين لهم، يجعلونهم أعوانا بدل المؤمنين الناصحين، بئس للظالمين بدلا، بل هؤلاء الأعداء في الواقع لم يعودوا مجرد مستشارين لحكام المسلمين، بل آمرين، صانعين للقرار في بلاد المسلمين.
فالقرارات المصيرية في حياة الأمة وفي تحديد المواقف الدولية بأيديهم، لايَصْدُر حكام العرب فيها إلا عما يمليه عليهم أعداؤهم ويأذنون به، لذا لم تر الشعوب من حكامها إلا الاستسلام، والخذلان لإخوانهم في فلسطين، وقد أمرهم الله بنصرتهم في قوله: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)، فتركو أمر الله واستجابوا للأمريكان!
وهذه الهيمنة من الأمريكان على الحكام العرب هي في مقابل الحفاط على حكمهم، وتبين أنه أغلى على الحكام من دينهم، لذا هم عند الابتلاء - بين نصرة المؤمنين ليفوزوا بأجر المرابطين في سبيل الله، وبين التخلي عنهم طاعة لعدوهم - اختاروا الدَّنِيَّة في دينهم، إبقاء لحكمهم، ورضوا بالحياة الدنيا عن الآخرة.
وإلا فبماذا نفسر مواقفهم فيما يحصل في أرض فلسطين؟
يرونها تُجْتَاح هذه الليلة، جوا وبرا وبحرا، ويستباح كل ما عليها؛ من بشر وشجر وحجر، وهي في ذلك على مدى مايقرب من الشهر، ولا يحركون ساكنا!
ثمانون دولة من دول العرب والمسلمين حضرت اجتماع مجلس الأمن هذا الأسبوع، لم يزيدوا في مواقفهم على القدر المأذون لهم فيه من الشجب والتنديد والإدانة، حتى حميةِ القوم لنصرة المظلوم لم تتحرك في عروقهم، لم يقل واحد منهم مثلا إنه يعلق كل تعاون وعلاقة بينه وبين الأمريكان وباقي المستكبرين الدائمي العضوية في مجلس الأمن، ما لم يتوقف العدوان الهمجي على غزة!
لو قالوا ذلك لقاموا بالحد الأدنى من النصرة، ولتغير الحال.
لكنهم مخذولون!
ليس هذا فقط، بل دول الطوق في مصر والأردن وسوريا جعلوا من جيوشها حراسا يحمون الصهاينة من شعوبهم الغاضبة، فهؤلاء حكام صاروا شركاء للصهاينة وحلفائهم فيما يعد - باستهداف المستشفيات وقطع الطاقة عنها لتتوقف أجهزتها - قتلا جماعيا لكل من فيها من مرضى ومعاقين وضعفاء الناس، ومضطرين من فاقدي الحيل ومواليدَ وأطفالٍ ونساء.
فهل رأي العالم في تاريخه أكثر وحشية وهمجية وبربرية من هذا التحالف الذي تقوده أكبر بلدان العالم وتتبجح بالمدنية والتحضر وحقوق الإنسان؟!
ثم لم يتورع رئيس أكبر دولة في هذا التحالف أن يشارك في الكذب بنفسه، فقال عن المقاومة إنها تقطع الرؤوس، ولما كانت كذبة الأمير بَلْقاء تجوب الأقطار، ناء كاهله بحملها، فلم يتمالك أن يعتذر عنها، واكتفى بالاعتذار بعد أن لوثت كذبته البحر!
لم يقم حكام العرب والمسلمين بالحد الأدنى من مستطاعهم ولم يفعلوا شيئا ذا بال، حتى التهديد بقطع العلاقات مع الذين يدعمون الصهاينة، فضلا عن قطع النفط والغاز وسحب الأرصدة، فضلا عن أن يهددوا العدو بأن جيوشهم لا تتحمل أن ترى هذه المناظر البربرية المتوحشة في قتل الأبرياء من إخوانهم ويقفون موقف المتفرج وأنهم قد يفقدون السيطرة عليهم، لم يفعلوا شيئا من ذلك، وهو في مستطاعهم لو كانوا رجالا!
فهم ليسوا خيرا من آلاف الأبرياء الذين قضوا في غزة وغيرها من بلاد الرباط!
السؤال: لماذا هذه الوحشية في قتل الأبرياء؟
الجواب: لأن الصهاينة وحلفاءهم الأمريكان أخذهم الله من حيث لم يحتسبوا، ونالت منهم المقاومة، التي كانوا لا يعدونها شيئا، ما لم يكن لهم ببال، وأصابتهم بما لا قدرة لهم على تحمله، فاشتاطوا غيظا، وظهر منهم ما ذكره الله في قوله: (ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر).
شعروا بأن أكبر دولة في العالم تحصينا واستعدادا وقدرة على التجسس وجمعا للمعلومات أُذِلت وأرغمت، وأصيبت في مقتل.
فبهذه الوحشيةِ في قتل الأبرياء يحاولون استرداد كرامتهم التي أُذِلّت وأهينت في نظر العالم، لذا أتى الأمريكان بأساطيلهم البحرية وبارجاتهم تحمل جيوشهم وخبراءهم ومعداتهم التقنية المتخصصةَ في وسائل التجسس وجمعِ المعلومات.
وحاملة الطائرات الراسية على شواطئ فلسطين المحتلة، لايخفى على المقاومة أنه على رأس مهامها التشويش وقطع الاتصالات ومراقبتها والتجسس عليهم، ليتمكنوا من تحديد مواقع المقاومة ليستهدفوهم، والأسرى ليتمكنوا من تخليصهم.
وقد ذكرت بعض وكالات الأنباء في الأيام الماضية أن القوات الخاصة من الأمريكان والصهاينة توغلت في غزة، وهيئوا لأنفسهم بقطع الكهرباء وانتشار الظلام، ورأى العدو أن ذلك يسهل له المهمة، فقال الله لهم: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) فحَلّ الظلام كما وعد الله بقلوب الكافرين، ووقعوا في كمين للمقاومة أجهز عليهم وجروا ذيول الخيبة، فلله الحمد والمنة.
ثم أليس إرسال الأساطيل البحرية وحاملات الطائرات والجيوش المجيشة إلى غزة لمواجهة مقاومة أكثر ما تملكه أسلحة خفيفة ورشاشات - أمر مضحك؟!
وفي قوله: (قد بدت البغضاء من أفواههم)، مايشير إلى ما يظهر على الأعداء في فلتات لسانهم دون إرادة منهم تغلبهم أحيانا ولايملكون إخفاءها.
ومن فلتات اللسان وما أبدته أفواههم من البغضاء، ما رأيناه من توبيخ وتقريع رئيس الأمريكان السابق لحكام السعودية ذات مرة على الملأ في الإعلام، يقول لهم: إن ما أخذه منهم من نصف ترليون دولار هو حق له لا منة لهم فيه، لأنه يحافظ لهم على حكمهم، ولولاه ما استمروا أكثر من أسبوعين.
ويقول مستهينا بهم: عليكم بالمزيد، لأنكم لا تحسنون التصرف في هذا المال الكثير، فهو ومصانع الأمريكان أولى به منكم، هكذا قالت فلتات لسانه، وهذه هي البغضاء التي ذكر الله أنها تبدو منهم في قوله: (قد بدت البغضاء من أفواههم).
وما تخفي صدورهم وما يضمرونه مِن الكره والعداوة أكبر مما يظهر منهم؛ فاحذروهم يا حكام المسلمين ولا تتخذوهم بطانةً ولا مستشارين إن كنتم تعقلون!
وإلى لقاء في حديث آخر في الحلقة الثانية من (البطانة والحاشية)
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
12 ربيع الآخر 1445 هـ
الموافق 27-10-2023

التبويبات الأساسية