بسم الله الرحمن الرحيم
من الفساد الإداري والمالي؛ أن يتم التعيينُ في الوظائفِ والمناصبِ العامةِ، على أساسِ القرابةِ والعائلةِ، والجهةِ والقبيلةِ.
لا على أساسِ الأمانةِ والخبرةِ والكفايةِ والمؤهلِ والمهارةِ، وتكافؤ الفرص، والفسادُ على هذا النحوِ؛ حصادُه المرّ انعدامُ العدلِ والأمنِ والتنميةِ والاستقرارِ، وأكلُ الحرامِ، وضياعُ حقوقِ الضعفاءِ والفقراءِ، بل ضياعُ الوطنِ بأسرهِ.
في التقارير الدولية؛ ليبيا من الدول التي تتصدر قوائمَ الفساد على مستوى العالم.
وتتصدرُ قوائمَ الشفافية والعدلِ والحفاظ على المال العام وحقوق الآخرين دولٌ غير مسلمة؛ مثل الدنمارك وسنغافورة.
هذا في الوقت الذي لا تجدُ قانونًا في الدنيا يحذرُ مِن الفساد، مثل ما حذَّر منه القرآن.
تكررت مادةُ الفساد في القرآن نحوًا من خمسين مرة، يحذرُ القرآن منه، ويتوعدُ عليه؛ قال تعالى: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة:205]، (وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين) [الأعراف:142]، (وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة:60]، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [النمل:14].
يقولون عن ليبيا؛ بلدُ المليون حافظ، ومع ذلك نتصدرُ قائمة الفساد!!
إذًا هناك مشكلة عندنا، فكأننا نحفظُ الحروف ونضيعُ الحدود، صار حالُنا أشبهَ بحال الخوارج؛ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرَهم، يحسبونَه لهم وهو عليهم، يمرقونَ مِن الدّين كما يَمرُق السهم من الرميَّة.
النبي صلى الله عليه وسلم صحَّ عنه مِن حديثِ معاويةَ بن أبي سفيان وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم قوله: (مَن يُرِد اللهُ بهِ خيرًا يفقِّههُ في الدِّين) [البخاري:71، مسلم:1037]، فلنتأمّل في قوله صلى الله عليه وسلم: (يُفقهه)، لم يقل: (يُحفظه)، قال: (يفقهه).
فالحفظُ وحدَه لا يكفي، ولذا كان مالك رحمه الله يقول: "قد يقرأُ القرآن مَن لا خيرَ فيه".
وسأضربُ بعض الأمثلة على غياب التفقه في الدين، مما له صلة بالفساد:
عامة الناس - مثلا - لا يرى أحدُهم بأسًا في أن يسرق المال العام، عن طريق اعتمادات مستندية مزورة، ويتقاسمها بالرشوة مع بعض العاملين في إدارات المصارفِ، أو أن يشترط المسؤول في المؤسسة أو الوزارة، لتوقيعه على مستند أو قرار، بتعيين أو إيفاد أو إفراج جمركي أو مستخلص مالي، يشترط لذلك مالًا يأخذه سحتًا، أو يشترط تعيين زوجته أو ابنه في وظيفة، أو إيفادًا للخارج، ثم يبني كل واحد منهم بذلك المال مسجدًا!!!
عامة الناس لا يرى أحدُهم بأسًا في أن يسرق الكهرباء، أو لا يسددَ الاستهلاك، أو لا يسددَ الدَّين الذي عليه للجهات العامة، ويوفرُ من ذلك المال، ليحجَّ به ويعتمر، أو يكفل يتيما.
عامة الناس لا يرى أحدهم بأسا في أن يخرجَ مِن عملِه، ويعطل مصالح الناس؛ ليَزُورَ أو يزورَه صديقٌ، أو ليعودَ مريضًا، أو يعزي مُصابا.
هذا الإنفاق والحج والاعتمار بالمال الحرام، وكفالةُ اليتيم، ليس من الله في شيءٍ ؛ لأنه خبيث، نهى الله عنه وحرمه، قال تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ)[البقرة:267]، وقال تعالى: (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) [الأنفال:37].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا) [مسلم:1015]، وفي حديث ثوبان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)[ابن ماجه:4245].
رفعُ ظلمٍ عن مظلومٍ خيرٌ من بناءِ مسجدٍ، أو التصدق بألفِ مصحفٍ؛ لأنّ من يرفعُ الظلمَ معدودٌ مِن المقسطين، والمقسطونَ على منابرِ النور يوم القيامة.
ولأنّ الأولَ فرضٌ، والثاني مندوبٌ إليه، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) [البخاري:6502].
مِن الفقه في الدينِ أن نعلم أنّ تركَ الحرامِ أفضلُ من العبادة، فلو قدم العبد على ربه، ليس معه شيءٌ من التطوعات، ونوافل الصلوات، والصدقاتِ والإنفاق، واكتفى بالمحافظة على أركان الإسلام، وكفَّ نفسه عن الحرام، كان من أهل الجنة.
قَدِمَ أَعرابيٌّ على النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ الإسلام، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم - بعد الإقرار بالتوحيد والنبوة - الصلاةَ والزكاةَ والصيامَ، فقال الأعرابي: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تَطوَّع، قال الأعرابي: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقصُ، فلما أدبر الأعرابيّ قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: أفلحَ إنْ صدقَ، دخلَ الجنةَ إنْ صدقَ [البخاري:46]، ولو أقبلَ العبدُ على ربّه بحسناتٍ، مِن الفرائض والنوافل أمثالِ الجبال، واختلسَ الأموالَ، وانتهك الحرمات، حُبسَ عن دخولِ الجنةِ حتى يتقاضَى الناسُ الحقوقَ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (... حتّى إذَا مَا نُقُّوا وهُذِّبوا أُذِنَ لهُم) [البخاري:6535].
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الخميس 12 ذو القعدة 1436 هـ
الموافق 27 أغسطس 2015 م