بسم الله الرحمن الرحيم
على هامش ملتقى إشهار سلسلة
(فتاوى دار الإفتاء الليبية 1433 - 1442 هجرية)
ملتقى حفل دار الإفتاء الذي انعقد بالأمس القريب بقاعة (ركسوس) بطرابلس أظهر - على الرغم من قصر عمر الدار وتواضع ميزانياتها - لمن شاهده المستوى المتميزَ لعمل الدار، فلا يسع من أنصف - مخالفا للدار كان أو موافقا - إلا أن ينبهر بما رأى من العمل المؤسسي المهني.
وجد فيما رأى المصداقية التي تصحب القولَ بالعمل، وتفي بما تعد، وتخطط وتنجز، لم تخيب الدارُ ظن الناس فيها، وما أمَّلوه منها.
رأى من حضر من خلال ما عرض موثّقا عملا كثيرا…
رأى عملا حقيقيا يُنجَز، وخدمةً للمواطن تُقدّم، ماثلة يراها بعينه، ويلمسها بيده…
رأى بالأرقام والإحصائيات إقبال المستفتين الهائل على الدار عبر الوسائل المتعددة المتنوعة…
رأى ما يلقاه المستفتي عند زيارته للدار من الاهتمام وحسن الاستقبال، مع مسؤولية وضبط للأمور وحزم، ودقة في الإجراءات والمواعيد، وإتقان للعمل، فلا يوجد في قاموس الدار مصطلح: "المنظومة اليوم واقفة" كما هو شائع في مؤسسات الدولة، عند التحايل على التهرب من العمل ورد أصحاب الحاجات دون مبالاة!
هذا التجاوب مع الناس بمسؤولية ومهنية في تقديم الخدمة، هو الذي أعطى للدار قيمةً عند الناس، وجعل المستفتين في أمر دينهم يثقون فيما يصدر عن الدار ما لايثقون في غيرها، وهو ما جعل الإقبال عليها يتزايد من داخل البلد وخارجها، وذلك وضع حِملا زائدا على العاملين بها فوق طاقتهم، يتطلب توسعا في المبنى بإضافة عدد من المكاتب، وأعدادٍ من الباحثين والمشايخ المفتين، للرد على هواتف المستفتين المجانية، وللفصل في النزاعات والخصومات.
رأى من حضر هذا الحفل أحد الطلاب الأوائل الذين تخرجوا في كلية العلوم الشرعية والإفتاء، وهو الشيخ السباهي، وسمع ما جمعته كلمته - التي ألقاها بالمناسبة - من الحسن في إلقائها ومضمونها ما استحق به الثناء، وهو الآن بعد تخرجه أحد الباحثين بالدار.
رأى الإجراءات والخطوات الصارمة المتبعة في قبول الشهود والإعلان عن دخول شهر رمضان، وما يتطلبه من التدقيق والمتابعة.
وفي هذا ما يطمئن أهل ليبيا بأن فتاوى شيوخ دار الإفتاء، سواء فيما يتعلق بدخول شهر الصوم والأعياد، أو في غير ذلك من الشأن العام، هي بحمد الله مستقلة متحررة من التبعية، منطلقها مرضاة الله لا إرضاء غيره أيا كان.
رأى من حضر إصدار المجلدات العشرةِ من فتاوى دار الإفتاء، وما تميزت به من الوقوف في وجه الغزاة والظلمة، المحليين والدوليين، والصدع بالحق في القضايا العامة للأمة، وكشف المنافقين والمتسلقين وفضحهم، لا تخاف فيه لومة لائم.
وذلك كله بين واضح، وهو من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لايشكرون …
ويستحق القائمون عليه في إدارة الفتوى ومجلس البحوث وغيرهم الثناء والتقدير
وقد ظفر كل من حضر الحفل بنسخة من مجلدات الفتاوى العشرة، فكانت كما يقال: غنيمة لمن شهد الوقيعة، فرح بها من حضر وغنمها أيما فرح!
ورأوا تكريم أوائل طلاب مدارس الإمام مالك للمراحل الإعدادية والثانوية، وتكريم أوائل الطلاب الذين تخرجوا في كلية العلوم الشرعية والإفتاء.
وما أدراك ما كلية العلوم الشرعية والإفتاء!
فهي تأسيس لمشروع كبير، هو بلغة العصر مشروع استراتيجي، وصمام أمان لمستقبل ليبيا وحمايتها من المفاهيم الخاطئة في التدين، الناشئ منها عن تفريط وتهاون، أو عن غلو وإفراط.
مشروع الهدف منه أن نعود بالبلد إلى المرجعية الشرعية التي كانت عليها منذ مئات السنين، باتباع المذهب السائد فيها، الذي بنيت عليه أعرافُ الناس في فتاوى مفتيهم، وأحكام قضاتهم، وعقود أنكحتهم ومعاملاتهم، ووثائق أملاكهم.
لقد كان التزام الناس في مناطقهم بالمذهب السائد لديهم حصنا منيعا، وبابا موصدا ضَمِنَ غَلْقُه استقرارَ المجتمع في ليبيا، وسلامَته مِنَ الفرقةِ في الدين، واتباعِ الأهواء طول القرون الماضية.
وما أن انكسر هذا البابُ بقدوم الفتاوى العابرة للقارات إلى بلادنا، حتى فَتح علينا شرُّ الخلاف أبوابَه على مصراعيه، القديم منه والحديث.
نريد من هذا المشروع العلمي في كلية الإفتاء أن يعود بنا إلى ما كان عليه العهد بالعلماء قبل ستينيات القرن الماضي، وما بالعهد من قِدَم، وذلك حين كان أكثرُ من ثمانين بالمائة من منازعات الناس وخصوماتهم تنتهي عند باب العالِم، الذي كان يخرجُ للناس طول أيام الأسبوع، أيّةَ ساعة من ليل أو نهار.
وكان هو المفتيَ والقاضيَ ولجنةَ المصالحة والتحكيم، وأحيانا يكون هو السلطان، فإذا ما أَمر بحبس أحد يُحبس، وذلك لثقة المجتمع به، وتمكنه من العلم الذي يتكلم فيه.
وكان يقوم بهذه الوظائف كلها مجانا احتسابا، لا يأخذ عليها مالا إلا شيئا ضئيلا، جنيهات قليلة يأخذها من الوقف على دروسه الصباحية النظامية، أو إمامته لمسجد.
لا كما يفعل في الغالب مَنْ خَلفوهم هذه الأيام، لا شيء عندهم مجانا، بل يستقلون كل ما يأخذون، وما ملؤوا فراغهم ولا نصيفه!
وعندما افتقدنا هذا الصنف من العلماء الربانيين المربيين، وجاء الوقت الذي يُنتزع فيه العلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من صدور الرجال، استفتى الناسُ رؤوسا جُهالا وشيوخا، بعضهم عندما تسمع كلامه هذه الأيام عن غزة لا تشك أنهم موظفون في دوائر الاستخبارات، لا شيوخٌ.
يسخرون من المجاهدين، ويلمزونهم بالألقاب، ويضعونهم في قوائم الإرهاب، يتكلمون بكلام، معانيه وأفكارُه عبريةٌ صهيونية، ولغته عربية …
لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب …
ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله …
ويقولون على الله الكذب، وهم يعلمون!
فأيَّ خسارة خَسِرها المجتمع بفقد حملة العلم الذين نسعى إلى تأهيلهم؟!
وكل ما يُنفق من أموال على تأهيل العلماء مهما كثر هو قليل، إذا ما قوبل بما يرجى من ورائه من خير ونفع للناس، ولا سبيل إلى توفير المال الكافي لتأهيل العلماء إلا بإنشاء المؤسسة الوقفية التي ترعاهم، فالوقفُ هو المَوْرد الآمن لإعداد العلماء، لا الحكومات التي إن رضيت أعطت، وإن كرِهَت مَنَعَت.
الوقف هو الذي يُعد العلماء المستقلين، القادرين على قول الحق، كما كان الحال أيام النهضة العلمية في تاريخ الإسلام، في بغداد، وبخارى، وسمرقند، وبلاد الشام، والقاهرة، وطرابلس، والقيروان، والقرويين، والأندلس.
فهذه هي عواصم العلم في أطراف الدنيا وأقطارها التي خلدها التاريخ، وكلها كانت قائمة على المؤسسة الوقفية، وعلماؤها الذين تخرجوا في مدرسة الوقف، هم الذين حملوا راية الجهاد، وحرروا بلاد المسلمين من التتار، والمغول، والصليبيين والفرنجة، وفتحوا القسطنطينية.
وقد انطلق بحمد الله تعالى في بلادنا مشروع المؤسسة الوقفية لتأهيل العلماء.
والمشاركةُ فيها ودعمُها - لتأهيل العلماء لمن أراد الآخرة له ولآبائه، في هذا الوقت الذي عزّ فيه القائمون بالحق - أعظمُ أجرا من نوافل الخير الأخرى، كالتطوع بالحج والعمرة، وبناء المساجد، وكفالة الأيتام، ونحو ذلك.
لأنك إذا جهزت بمالك عالما قائما بالحق، فإنه سيحمل الناس على الجهاد، وكفالة الأيتام، وبناء المساجد، وإقامة معالم الدين، فيكون لك في كل ما يحملُ الناسَ عليه من الخير نصيبٌ، فإنه عندما يرفعُ الله في القيامة العلماءَ الذين أوتوا العلم درجات على سائر الناس، يقول من جهز عالما بماله وأهَّلَه: يارب هذا الذي رفعتَه درجاتٍ وتركتني، أنا الذي أهلتُه بمالي، فألحقني به!
فهل تُرى أن الله رافعُه وتاركك؟!
وهو أعظمُ من سُئل وأكرمُ مَن أَعطى!
قال الله تعالى : (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ؛ إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
21 شعبان 1445 هـ
الموافق 2 مارس 2024