(خطاب القرآن لأهل مكّةَ)

 بسم الله الرحمن الرحيم
(خطاب القرآن لأهل مكّةَ)

لو فتّشنَا عبرَ التاريخِ عن عداواتٍ غذَّتْها العصبياتُ وروحُ القبليةِ بالموروثِ عنِ الآباءِ والأجدادِ، قدْ لا نجدُ عداءً أعنَفَ ولا أبيَنَ مِن عداءِ قريش وأهلِ مكةَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد قابلُوا دعوةَ الإسلامِ بالصدود والمسلمين بالاضطهاد.
تعذيبٌ وتقتيلٌ وتهجير، وملاحقةٌ وحروبٌ طاحنة، عداءٌ تفاصيلُ سردِهِ يحتاجُ إلى أسفار ومجلدات.
قائمٌ في أساسه علَى التمسّكِ بالموروثِ عن الآباءِ والأجدادِ الذي لا تتزحزح عنه القبيلة بحال (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مقتدون).
أجمع أهل مكة - عدا قلة أسلمت - على تلكَ العداوة والعصبية البغيضة، كانَ شغلهم الشاغِل الصدّ عن سبيلِ اللهِ، وإلحاق الأذَى بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، اتفقوا فيه على قول واحد، كذابٌ ساحر مجنونٌ كاهن، يُعلّمُهُ بشرٌ، أساطيرُ الأوّلين، إلى غيرِ ذلكَ مِن ألوانِ المطاعن والسبّ والشتمِ.
كانوا يتواصونَ بذلك إلى حد أنهم كانوا يتقاسَمون الوقوفَ على أفواه الطرقاتِ في الموسِمِ، ليقولُوا لكلِّ قادمٍ إلى مكةَ: هذا الذي تسألون عنه ساحرٌ مجنونٌ كاهن، فلا تستمعوا إليه، حتى صار بعضُهم إذا دخل مكة يحشو القطن في أذنيه لئلا يسمع منه شيئا على غفلة.
أجبروا المسلمين على الهجرةِ، ثمّ لاحقُوهُم بعدَ تهجيرِهِم بحروب طاحنةٍ ضروس أفنت الكثير منهم، كان الذي يفعلُ ذلكَ كلّه على مدَى ما يقربُ مِن عشرينَ عامًا قبلَ غزوةِ الأحزابِ، أهلُ مكةَ لا غيرُهم.
اتفقَ على هذا العداء الحاقد سادتُهُم ودهماؤُهم، عقلاؤُهُم وسُفهاؤُهم، صغارُهم وكبارُهم، رجالُهم ونساؤُهم، حتى إن امرأة أبي لهبٍ حمالةُ الحطبِ لها سورة في القرآنِ، فهل سمعتمُ القرآن بعد كل هذا العداء الذي تواطؤوا عليه، ولو مرةً واحدة، ذكرعداوتَه لقريش باسمِ القبيلةِ، أو أهل مكةَ باسم أهلِ مكة، فتوعّدَهم أو أمرَ بقتالِهم باسمِهِم، فقال مثلا: قاتِلوا قريشًا أو قاتلوا أهلَ مكةَ؟
القرآنُ يقولُ: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)، ويقول: (فَاقْتُلُوا المُشرِكينَ)، مع أنّ المشركينَ في مصطلحِ القرآنِ يكادُ يكونُ علمًا بالغلبةِ على أهل مكةَ، وإذا أرادَهم وأرادَ غيرَهم ذكَرَهُم بوصفِ الكفرِ.  
الّذينَ صدّوا المسلمينَ عن المسجدِ الحرامِ في الحديبيةِ، مَن هُم؟
هم أهلُ مكةَ لا غيرُهم!
ماذا قال عنهم؟ قال: (هُمُ الّذينَ كفَرُوا وصَدُّوكُم عَنِ المَسجِدِ الحرامِ) لم يقلْ هم أهلُ مكةَ، ولا قريش!

العناية بهذا الجانب في خطاب القرآن في غاية الأهمية، يمكنُ أن نجدَ فيها إشارةً إلَى عدةِ أمُورٍ:
1- أن يقتلِعَ مِن النفوسِ حميةَ الجاهليةِ والعداواتِ القبليةَ والجهويةَ، التي كانت تؤجّجُ الحروبَ الأهليةَ بين العربِ لعشراتِ السنين لأتفه الأسباب، كما كانَ بينَ الأوس والخزرجِ، وما أطفأهَا إلّا الإسلامُ.  
2- عالَميةُ هذا الدين، وأنّه للناس كافةً، فليسَ فيه إلّا إيمانٌ وكفر، لا عرق وجنس ونسب، كلكم لآدم، وآدمُ من تراب، (إن أكرمَكم عند الله أتقاكم).
على خلافِ الرسالاتِ السابقةِ للأنبياءِ، فإنّها كانت لأقوامِهِم خاصةً، ولِذَا تُوعِّدُ أقوامُهم بأسمائِهم، لأن الرسالة تنتهي بانتهائهم (أَلَا بُعدًا لعادٍ قومِ هُودٍ) (أَلَا إنّ ثَمُودا كَفرُوا رَبّهم أَلَا بُعدًا لثمودَ) (أَلَا بُعدًا لِمديَنَ كَمَا بَعدتْ ثَمُود).
3- لو استعملَ القرآنُ في الأمر بقتالِ أعدائِهِ اسمَ القبيلةِ أو الجهةِ، وهي مكة أو قريش؛ لتأذّى بذلكَ أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِن المهاجرينَ، وفى ذلك مِن الضررِ في إضعافِ جبهةِ المسلمينَ وشقِّ صفهم ما لا يَخفَى، لذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعهّدُ أصحابَهُ في هذا البابِ؛ حتّى لا ينزلقُوا إلَى موروثِ الجاهلية (كسَعَ رجلٌ مِن المهاجرينَ رجلًا مِن الأنصارِ، فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصار، وقال المهاجريُّ: يا لَلمهاجرين، فقال صلى الله عليه وسلم: أَبدَعْوى الجاهليةِ وأنا بينَ ظَهرانيكُم، دعوهَا فإنّها مُنتنةٌ).

فكذلكَ نقولُ اليوم :
عدوُّ الله حفتر ومن معهُ مِن مرتزقةٍ وعصاباتٍ مجرمةٍ، لا يمثلونَ مناطقَهم، فلا يمثلونَ ترهونة، ولا يمثلونَ مدنَ الشرقِ ولا الجنوب، وإنّما يمثلونَ الإجرامَ، فمَن كانَ مجرمًا وسلك سبيلهم المعوج، أيا كان مقامه وسكناه، فأهل الشرق والغرب والجنوب يمقتونَه ويُعادونَه لإجرامِهِ، لا لقبيلتهِ ولا جهتهِ، هكذا علّمَنا القرآنُ.
عندمَا قال نوحٌ عليه السلامُ: (ربِّ إنّ ابنِي مِن أهلِي)، قالَ اللهُ له: (إنّه ليسَ مِن أهلكَ إنه عملٌ غيرُ صالحٍ).
لقد تأذّى بعدوِّ اللهِ حفتر وعصابات إجرامه شرقُ ليبيا قبلَ غربِها وجنوبها، قتلَ منهم ومن خيارهم وهجّرَ الآلاف، يُحزن فقدَهم ومصابَهم كلُّ شريف كريمِ النفس.  
جاهدُوا جهادَ الأبطال، في بنغازي وفي درنة، ولُفقت لهم تهمُ الإرهابِ، وهم في درنة من دحروا الإرهاب، ألّبوا عليهم الأمم بما لفّقوه لهم من الأكاذيب، كما لفّقوا لأهل طرابلس عندمَا قدِمُوا إلى غزوها، لكنهم افتضحوا فلم يعد كذبُهم لينطليَ على أحد.
لقد حُوصِر الأحرار فِي بنغازي وفي درنة، وعُذّبوا وأُوذُوا أذًى بليغًا، وصَبروا وصابرُوا، ولم يستسلموا، قُتِلوا مرفوعي الهامات، مقبلينَ غيرَ مدبرينَ، فسطّروا في مواجهة الطغيانِ والاستبداد ملاحمَ منقطعة النّظيرِ، تقبلهم الله في الشهداء.
لا يمكنُ أن نغفلَ عن هذا التاريخِ المشرق المشرّف، وننْسَى كلَّ هذهِ التضحياتِ، والعهدُ قريبٌ.  
خطابُنا في هذهِ المحنةِ للآخرين نُحبُّ أنْ يكونَ خطابَ عدلٍ وإنصاف، يقيم القسط ولا ظلمَ فيهِ لأحدٍ.
الكلام باسمِ الشرقِ والغربِ يتأذّى به الأمواتُ، كما يتأذّى بهِ الأحياءُ مِن أهليهِم وذويهِم، ويتأذّى بهِ مَن هم علَى العهدِ باقونَ فِي كلِّ مدنِ الشرقِ.  
هناكَ آلافٌ من الأحرار في الشرقِ ينتظرون لحظةَ الخلاصِ مِن قبضةِ المجرمينَ الجاثمةِ على صدورهمْ، وكذلك الحالُ في ترهونة، وفي كلّ مدنِ ليبيا التِي خرجَ فيها فئة باغية باعُوا ضمائرهُم للشيطانِ، ورضُوا بأنْ يكونُوا عبيدا في سوقِ النخاسةِ، يُباعونَ ويشترونَ بالأموال الفاسدةِ مِن السعوديةِ والإماراتِ، ليقاتلوا أهلهم وقراباتهم وبنو عمومتهم  وأصهارهم من المسلمين، لا يفعل ذلك حر، لا يفعل ذلك إلا العبيد، وسيبتليهم الله ومن يمولهم من السعوديين والإمارتيين بمَا لا طاقةَ لهم بهِ، إنْ لم يتدارَكُوا أمرهم (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ).
في الصحيحِ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَن قَاتل تحت راية عِمّية يقاتل عَصبيةً ويغضب لِعصَبيّة فقِتْلتُهُ جاهلية).
قال أهلُ العلم: يدخلُ في هذا الوعيد بميتةِ الجاهليةِ كلُّ مَن حرّكَتْهُ العصبيةُ وغضِبَ لَهَا، حتّى لو كانَ مُحقًّا.
 
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
21 رمضان 1440 هـ
الموافق 27 مايو 2019 م

التبويبات الأساسية