(آية وعبرة) تحذير من استبدال الدنيا بالدين

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

(وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا).
في هذه الآية من سورة آل عمران - سورة معركة أحد - تعريضٌ بمَا وقعَ مِن الرُّماة يوم أحدٍ؛ تَركوا أماكِنَهم، وخالَفُوا أمرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، نزَلُوا لجمعِ الغنائمِ، فكَشفُوا ظهورَ المسلمينَ للعدوّ، واستبدَلُوا عرضَ الدنيا وجمعَ الغنائمِ، بالثباتِ وما وعدَ الله تعالى بهِ الصابرين مِن ثوابِ الآخرة.
لَامَهُمُ القرآنُ على ذلكَ، في هذه الآيةِ وفي غيرِها، كما قال تعالَى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران:165].
المسلمُ مأمورٌ بحفظِ نفسِه، لا يبذُلها إلا في سبيلِ الله؛ لنُصرةِ دينِه، وإعلاءِ كلمتِه في ميادينِ القتالِ، وميادِين الحجة والبيانِ؛ (وَجَاهِدهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان:52].
وحينَ يَنذر نفسَه لذلكَ؛ فإنّ سياقَ الآيةِ يقولُ له: الثباتَ الثباتَ، فإنّ نفسًا لن تموتَ إلا بإذنِ الله؛ (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا) [آل عمران:145].
وإن خوفَه وجبنَه لن يزيدَ في عمرِه، وثباتَه وإقدامَه لن يقربَ مِن أجَلِه، معتبرًا بقول القائل:
تَأَخّرتُ أَسْتَبقِي الحياةَ فلَم أَجِدْ ... حياةً مثلَ أنْ أَتَقَدّمَا
وقول الآخرِ يخاطبُ نفسَه، وقد نَازعَته أن يَجبُن:
وَقَوْلِي كلَّما جَشَأَتْ وجاشَتْ ... مَكانَكِ، تُحْمَدِي أَو تَسْتَرِيحِي

ومعنَى قوله تعالى: (وَمَن يُرِد ثَوابَ الدّنيَا)، أي: مفرّطًا في الآخرةِ، مُضيّعًا لحقوقِها، مُعرِضًا عن ثوابِها، طالبًا بَدَلَه المالَ والمتاعَ، أو النفوذَ والجاهَ، كالذِي يختارُ الحياةَ عنِ الجهادِ في سبيلِ اللهِ؛ إيثارًا للراحَةِ.
أو يُضعفَ جماعتَهُ ويخذلَ قومَه؛ نظيرَ وجاهةٍ أو تَرَؤُّسٍ، أو لقاءَ وَعْدٍ بمنصبٍ وسلطانٍ، أو لاختيارِه هو دونَ غيرِه - إنْ كانَ تاجرًا - لتوريدِ سلعةٍ، أو تكليفٍ بعطاءٍ، أو تحويلٍ مصرفيّ بالعملاتِ الأجنبية، وغسيل الأموال، أو غيرِ ذلك مِن الرشاوَى المبطنةِ والمعلَنَةِ؛ لتغيير المواقف، وتبادل الأدوار.
فمن أرادَ الدنيا على هذا الوجهِ المذمومِ المخذولِ، المفرِّطِ في ثوابتِ دينِه ووطنِه، مؤثرًا بالحرامِ ثوابَ الدنيا (نُؤْتِهِ مِنهَا)؛ نُوفهِ أجرَه فيها، ونُمكِّنُه منها، فيتمُّ له ما أرادَ مِن الترؤُّسِ والمنصبِ أو المالِ، فإنّ الله تعالَى وعد أن يعطِي الدنيا مَن يُحبّ ومَن لا يُحبُّ، (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء:20]، ولا يُعطِي الآخرةَ إلا مَن يُحب.
ومَن اختارَ عطاء الدنيا بالحرامِ، ليسَ له في حظ الآخرةِ مكان؛ (وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى:20]، هذا هو الفريقُ الأول الذي استكملَ أجرَه في الدنيا .
وفريقٌ آخرُ قالَ عنه القرآن: (ومَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ)، بعدمِ التفريطِ فيهِ إذَا تعارضَ معَ ثوابِ الدنيا، فجعَلَ همَّه مَرضاةَ ربِّه، دونَ مرضاةِ خلقِه، ولم يُبدّله بمالٍ يُبذلُ، أو جاهٍ أو منصبٍ يُعرَض؛ (نُؤتِه مِنْها)، نُوفهِ أجرَ الآخرةِ وثوابَها؛ كما كانَ الحالُ مع الذينَ ثبتُوا يومَ أحدٍ، وانحازُوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، يذبُّونَ عنه، حتّى كشَفُوا عنهُ العدوّ، فاختارُوا عندما امتحنوا الآخرةَ، ولم يلتفتُوا إلى الدنيا، حين كان الوقت لا يسع الاثنين.
فالطلبُ المذمومُ للدنيا؛ هو الذِي يذهب بالآخرة، يضيعُ صاحبه الحقوق؛ فلا يُوفي بالعقودِ، ولا يَصدقُ في الوعودِ، ولا يحفظُ مَا اؤتُمنَ عليه، ولا ينصرُ في الحقّ قومَه وأهلَه، بل يكونُ كمن قالَ الله فيهم: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ﴾ [القيامة:20،21].
أمّا طلبُ الدنيا والآخرةِ معًا؛ بحيث تكونُ الدنيا في اليدِ، مطيةً ووسيلةً، والآخرةُ في القلبِ، مقصَدًا وغايةً، فهذا هوَ الذي أمَرَ به القرآنُ: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77].
فحظوظُ الدنيا التي لا تُضيعُ الآخرةَ مُرَغّبٌ فيها، مَقصودٌ تحصيلُها؛ كمَا قالَ تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة:52]؛ الشهادة، أو النصر والغنيمة، وقال تعالى: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران:148]، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) [مسند أحمد:17346].
فَمَا أَجمَلَ الدّينَ والدّنيا إِذَا اجتَمَعَا ... ومَا أَقبَحَ الكُفرَ والإِفلاسَ للرّجلِ
(وإنّ لنَا لَلْآخِرَةَ والْأُولَى).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الأحد 15 ذو القعدة 1436 هـ
الموافق 30 أغسطس 2015 م

التبويبات الأساسية