بسم الله الرحمن الرحيم
ما قامت به إسرائيل من قرصنة دولية في عرض البحر أسفرت عن سفك الدماء والاستيلاء على الأموال، هو في قاموس القانون الدولي ـ إذا قام به صوماليون ـ حرابة وقطع طريق يستنفر العالم بقضه وقضيضه وقواته البحرية والجوية لحماية الأبرياء والآمنين والتجارة العالمية من اللصوص المجرمين. والصوماليون إذا ما أردنا تعريفهم وتصنيفهم: هم جماعة من الأفراد مارقون في دولة فقيرة، شعبها جائع، خرجوا للارتزاق والكسب غير المشروع، لا يُجاهرون بذلك ولا يُعلنونه، أما ما قامت به إسرائيل فهو حرابة دولة لم تُخف ما عزمت عليه من القرصنة وقطع الطريق، وهددت به مسبقا على مرأى ومسمع من العالم بأنها ستضرب السفن القادمة إلى غزة في عرض البحر، وتعلم أن على ظهرها عُزّلا يحملون إغاثة إنسانية لمدينة محاصرة منكوبة. لا غرابة أن تصدر من العالم الغربي ومن في فلكه وتحت نفوذه من بلدان الشرق بيانات تسكينية باهتة الاستنكار عند وقوع الحدث، ثم يلوذ الجميع بالصمت، فهم الذين أتوا بهذا الكيان الخبيث إلى قلب الوطن العربي وأمدوه بالقوة والسلاح وبكل مقومات وجوده، ولازالوا يَحْمُون ما يصدر منه من تقتيل وتهجير وتجويع وترويع وتصفية عرقية واعتداء على الحرمات والمقدسات، فيغضون الطرف عن ذلك كله ويعيقون في المحافل الدولية كل ما يمكن أن يُلحق بالدولة الصهيونية أي لوم أو تعنيف، فيهابون حتى أن يجرحوا شعور العدو باستنكار أو لوم ولو لم يكن ذا مضمون، وأيديه صباحَ مساءَ تتلطخ بدماء الأبرياء. ويبررون كل عنوان منه مهما كان فظيعا لا تُقره قوانين الإنسانية قاطبة ـ بحق إسرائيل في الوجود، أو بما يسمونه الشرعية الدولية، فإذا ما صدر أي فعل ـ مهما كان ضعيفا ـ من الضحية دفاعا عن النفس، أو حتى احتجاجا على تنوع عدوانه المتجدد الجاثم على أنفاسهم، أقاموا الدنيا ولم يُقعدوها، ووصفوا رد هذا الفعل الضعيف الهزيل ـ إن كان مسلحا ـ بالإرهاب والاعتداء على (المدنيين الآمنين في دولة إسرائيل)، وإن كان الاحتجاج بإيقاف المفاوضات التطبيعية الفاشلة قالوا عن الفلسطينيين: إنهم لا يريدون السلام، والذي يحمل كِبْر هذا الفعل الجائر الآثم الولايات المتحدة الأمريكية، فهي خط الدفاع الأول عن العدو بالسلاح والمال وتزوير الكلام لصالح العدو في المحافل الدولية. لا عجب أن يكون رد الفعل على ما تقوم به إسرائيل من الجرائم التي لم يكن ولن يكون آخرها العدوان على سفن الإغاثة ـ فارغا رخيصا لا يكلف العدو ثمنا، وأنه مجرد استهلاك مؤقت ينتهي بانتهاء الحدث، لكن العجيب ألا يَرقى الإنكار ورد الفعل من الحكومات العربية حتى إلى هذا المستوى الشكلي الفارغ من المضمون، والأعجب منه أن رد فعل الشعوب العربية والإسلامية هو من حيث الفاعلية والمضمون العملي لا يختلف عن رد الفعل الدولي الذي في نهاية الأمر لا يُسفر عن شيء. مرّ على النكبة أكثر من 60 سنة، واليهود لا يتوقفون عن عدوان، وكلما أصابوا منا إصابة بالغة مستنكرة بجميع المقاييس الدولية والإنسانية علت الأصوات بالضجيج والاستنكار والمسيرات الغاضبة، ورُفعت الشكايات إلى المحافل الدولية واللجان الحقوقية التي نشأت في بلاد الغرب وتعمل ضمن قوانينه ومؤسساته، ولا تعاقب إلا الضعفاء الممانعين لنفوذهم، ثم هدأت العاصفة وعاد ما كان إلى ما كان، أشبه بالفقاقيع التي يحملها الماء إذا أضيف إليه عند تحركه ما يكدر صفوه، وسرعان ما تنطفأ تلك الفقاقيع، حتى تأتى صفعة جديدة، وقد خبرت إسرائيل ذلك من رَدَّات الفعل هذه الجماهيرية العشوائية، ولا تجد صعوبة فى التأقلم معها وامتصاصها، ولسانُ حالها يقول: (شِنشنة أعرفها من أخزم) فلا تتوقف هي عن كيد ومكر، وقبضتها الحديدية تُعِدُّ لضربة قادمة. أقول أزيد من ستين عاما من النكبات المتكررة، ولم نبدأ بعدُ عملا يَحسب له العدو حسابا، لأنه ليس لنا رؤية شرعية مُعدّة من ذوى الاختصاص واضحة المعالم والخطوات، توصل إلى الهدف، يُبَصَّر بها الفرد المسلم وعامة الناس، تكون من الوضوح والتأكيد عليها بحيث تُمَثِّل في ذهنه هدفا استراتيجيا للأمة، ليس لأحد عند الله عذر إن فرط ولم يَسلك السبيل إلى تحقيقه ، لم نتفق بعد ـ أي في هذا الشأن ـ حتى ما إذا كانت مقاطعة الدولة الكبرى التي تحمي إسرائيل وتدعم عدوانها وتجعل ذلك عملا استراتيجيا في أولويات مصالحها ومهامها أمرا مشروعا. فمنا من لا يزال يرى أن المقاطعة بدعة، لم ترد في الكتاب والسنة، وأكثر الدعاة والمفتين لا يتعرضون لما إذا كانت مقاطعة أمريكا مشروعة أو غير مشروعة، إما لأن القطيعة في نظرهم ثانوية جدا لا تستحق الوقوف عندها ولا الكلام عليها، وإما لأنها غير مجدية، وإما لأن الحكام لا يريدونها، وكل احتمال أسوأ من الآخر، تجد في الأسئلة الموجهة كل يوم إلى العلماء والدعاة في القنوات الفضائية سؤال يتكرر عن التشقير، أو صبغ الشعر، أو حكم النقاب، أو شراء أسهم في شركة في أموالها نسبة من الربا، أو غير ذلك من الأسئلة التي تتكرر الإجابة عليها كل يوم تقريبا، لكن لا تجد من يسأل هل هناك عمل إيجابي محدد ـ ليس فيه مساءلة قانونية ـ نَرُد به على العدو، يستطيع أن يقدمه المسلم لقضية فلسطين، تبرأ به ذمته عند الله ويكون له أثر ولو على المدى البعيد يحسب له العدو حسابه. أو يسأل هل ما تفعله أمريكا بالمسلمين ـ سواء في فلسطين أو في العراق أو في أفغانستان، أو ما تقوم به من ضغوط على الحكام بالسكوت على ما تفعله إسرائيل في الفلسطينيين من جرائم بشعة، وتفريط في قضايا الأمة ـ هل هذا كله لا يكون سببا كافيا إلى الدعوة إلى مقاطعتها، وليس له من القوة ما يجعله لا يقل في تحقيق مصالح الأمة والدفاع عن دينها ومقدساتها عن السبب الذي صدرت عنه الفتاوى بمقاطعة الدانمارك حينما تعرضت صُحُفها للإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأينا أثر تلك المقاطعة لقضيتنا رغم عمرها القصير، حيث إنها ما بدأت حتى انتهت (إشفاقا على إخواننا الدانماركيين الأبرياء) من الخسائر، فسعينا إليهم للمصالحة، إظهارا للتسامح، هذا التخبط الذي جعلنا عاجزين طول هذه السنين من النكبة أن نغير من الواقع شيئا، وتتوالى علينا الضربات الموجعة، ونقاسي الذل والمرارة والهوان من عدونا على كثرة عددنا ما تتقطع له القلوب ـ سببه أننا لم نبدأ بعدُ، وأنه ليس لنا هدف محدد، العامة عاجزون عن وضعه، والحكام منصرفون عنه، لأن كراسيهم أهنأ بدونه، والعلماء والمصلحون والمفكرون غافلون عنه. هناك طرق قانونية مشروعة للمقاومة، لا هي إرهاب ولا عنف ولا يُجرمها القانون، لا تستدعي تجييش الجيوش ولا تفجير الانتحاريين، يَقدر عليها كل فرد، لكن يُحتاج إلى تعريفه بها ودعوته إليها وتذكيره بها وبيان أنها أضعف الإيمان في حقه الذي يُنجيه من المساءلة والتفريط، وهذا هو دور العلماء والدعاة في العالم الإسلامي، وهم مسئولون عنه لأن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران 187)، وحذرهم من السكوت عن الحق وكتمانه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة 159)، وهذا يتطلب تضافر الجهود، وأن تتبناه ـ بالإضافة إلى الدعاة وعامة العلماء ـ المجامع الفقهية والمجالس العلمية والمجلس الأعلى لعلماء المسلمين، بحيث تُشكَّل لجان مختصة من فقهاء الشريعة والقانون والاقتصاد والاجتماع يُطرح عليها هذا السؤال الكبير: نريد إعداد هدف استراتيجي للنهوض بالأمة ودفع الظلم عنها من أعدائها، يتمثل في تحديد الوسائل والآليات لتحقيق ذلك بطريق سلمي قانوني مشروع يمكن لكل فرد مسلم أن يتعاطى فيه بإيجابية مع قضايا أمته المصيرية، ويحقق لها أهدافها على المدى البعيد، ويجعل لها رهبة يحسب لها العدو حسابها. لو أن مليارا ونصفا من المسلمين صدرت لهم فتاوى تُحرم عليهم شراء المنتجات الأمريكية ـ التي لها بديل من بلاد أخرى صديقة أو على الحيادـ فالتزم بذلك ولو نصفهم أو ثلثهم أو ربعهم، لأتت دولة العدوان الكبرى صاغرةً راكعةً مستجديةً كما استجدت الدانمارك المسلمين، وخطبت ودهم في تلك المحاولة القصيرة لمقاطعة منتجاتها، وهناك وسائل أخرى غير المقاطعة يمكن الاستفادة منها بتوجيه الناس إلى النافع منها، كتوجيه المسلمين إلى المشاركة في الالتحاق بقوافل كسر الحصار عن غزة، والالتحاق بها بكثافة، جماعات بعد جماعات، فهذا عمل سلمي يُحرج العدو ويضع عليه المزيد من الضغوط لفك الحصار والتعامل بأسلوب آخر غير الشراسة التي يُعامل بها الفلسطينيين والعرب جميعا، والتذكير بهذا وبغيره ـ من وسائل المقاومة السلمية وأنه متعين على كل مسلم قادر ـ هو مهمة المتخصصين في المجالس العلمية الجادة، بحيث يكون لجهودها ثمرة وعائد على الأمة، فهل آن لنا أن نبدأ!!
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني 20 رجب 1431 هـ الموافق 2 / 7 / 2010 |