بسم الله الرحمن الرحيم
تحير الناس عندما سمعوا حكما بثبوت رؤية هلال ذي الحجة بعد المغرب مساء يوم الأحد الموافق 9/12/2007 وأحسوا بحرج شديد على حين أنهم يعلمون أن القمر تلك الليلة في جميع بلاد العالم الإسلامي بما فيها البلدان التي صدر فيها الحكم، يغرب عن الأفق قبل غروب الشمس (في مكة المكرمة مثلا بثلاث وعشرين دقيقة)، وأن اقتران الشمس مع القمر الذي تعقبه ولادة الهلال الجديد لا يحصل تلك الليلة إلا بعد الغروب في جميع البلدان (في مكة المكرمة بثلاث ساعات ودقيقة)، ومما زاد الحيرة ؛ أن هذا الأمر قد تكرر مثله في هلال شوال الماضي، وفي عام قبله، ولا شك أن الحرج في هلال ذي الحجة أشد ، فقد يصوم الإنسان وحده ، وقد يفطر وحده ويخفي ذلك أو يسره ، لكنه لا يقدر أن يقف بعرفة وحده ، فهل مثل هذه الرؤية لهلال لم يولد يمكن قبولها ممن ادعاها وشهد بها، وهل يمكن للقاضي الحكم بثبوت الشهر بناء عليها؟ أم أن العلم بعدم وجود ما شهد به الشاهد يعد قادحا في شهادته يبطل الشهادة من أصلها ويردها؟ .
وقبل التحقيق الفقهي في القول برد شهادة الشاهد إذا اقترنت بما يكذبها ثم الحكم بها ، وحكم من بلغه مثل هذا الحكم وهو يتيقن خلافه ، لابد من ذكر مقدمتين:
الأولى - هل الحساب وعلم الفلك الذي يعلن اليوم بالدقة المتناهية عن دورة القمر وتحديد منازله وتوقيت اقترانه مع الشمس هو من الحقائق العلمية القطعية الثابتة، أم تخمين وتنجيم، يحتمل الصدق والكذب، ويدخل تحت قولهم : (كذب المنجمون ولو صدقوا).
الثانية - هل رؤية الهلال ممكنة قبل وقوع هذا الاقتران أم مستحيلة.
دورة القمر واقترانه مع الشمس:
الشمس والقمر أجراهما الله تبارك وتعالى على نظام واحد طول الدهر، بتقدير منه معلوم، وبحساب ثابت منضبط، وأخبر بذلك في كتابه جريان بحساب لا ينخرم، وحساب جريان الشمس والقمر عادة مطردة منذ أن خلق الله تبارك وتعالى الكون إلى أن يأذن بفنائه، وهذا أمر متفق عليه قديما وحديثا، ولا يختلف عليه أحد كما دل القرآن الكريم، والجديد فيه أن معرفة وقت اقتران الشمس مع القمر في دورتها صار ـ بما أذن الله تعالى به من علوم العصر ـ تحديده ممكنا في أنحاء الأرض بالدقيقة واللحظة، تحديدا لم يعد قابلا للجدل ، وذلك للأدلة الآتية:
1 ـ معرفة وقت الاقتران بالدقة المتناهية صار مما يُدرَك بالحس والمشاهدة بسبب التقدم العلمي الهائل في علم الفضاء الذي فتح الله تعالى به للعلماء ـ الذين أخذوا بأسبابه ـ كثيرا من المعارف المتعلقة بالكواكب ومواقعها وسيرها وسرعة حركتها، ورصد ذلك بالتصوير المباشر، وبغيره من الوسائل العلمية المتاحة، مما جعل العلم بمعرفة موقع القمر من الشمس في أي لحظة من الشهر ونقله بالصورة المباشرة المحسوسة رأي العين إلى سكان الأرض، جعله حقيقة ثابتة لا يمارى فيها، كما شاهدناه مرارا عندما نقلت إلينا صورة موقع القمر مع الشمس وقت الكسوف، فهذا دليل محسوس يمكننا استخدامه لتحديد معرفة لحظة الاقتران، والمحسوسات من وسائل المعرفة الضرورية القطعية التي لا يملك أحد ردها، لأننا إن شككنا في المحسوسات لم يثبت لنا بعد ذلك شيء.
2 ـ تواطأ العالم شرقه وغربه على أن وقت الاقتران ثابت معلوم محسوب وقته ومعلن عليه بالدقيقة والثانية في كل بلد بتوقيتها المحلي حتى لشهور وسنين قادمة، ولم نجد أحدا من علماء الأرض الذين لهم اختصاص بهذا الشأن على كثرتهم اعترض على ذلك أو ذكر فرقا فيه مُخالفةٌ تُذكر، ولو كان الجدول المعلن من أحد المراكز الفضائية عن هذا التوقيت خاطئا لأمكن لمركز آخر أن يقيم عليه الحجة المحسوسة على ما يخالف إعلانه بنقل صورة الاقتران إليه وقت حدوثه نقلا مباشرا ، ولم نسمع بشيئ من هذا ، بل اتفق الجميع في أمر ، ولم نجد في الشرع ما يُكذِّب ما يُعْلَن من ذلك أو يُشكِّك فيه، بل وجدنا فيه ما يُصَدِّقه ويُؤَيِّده، فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا في كتابه بهذا الحساب لجريان الشمس والقمر، ولم يمنعنا من تعلم هذا الحساب والوقوف عليه، بل مدح على ذلك، وأغرانا به ، وقال : لتعلموا عدد السنين والحساب وأخبر أنه سيرينا آياته في الآفاق وفي أنفسنا حتى يتبين لنا الحق .
أفلا يدل هذا الإطباق والتوافق الجماعي الكامل من علماء الأرض عن توقيت الاقتران على أن العلم به صار مقطوعا بصدقه لكثرة ناقليه، وأنه مِنْ نقل خبر الكافة المتواتر الذي لا يُشترط في ناقله عدالةٌ ، وذلك كما نقطع ـ لكثرة ما نسمع ـ بوجود فصول أربعة في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية تختلف عن الفصول الأربعة في الجزء الشمالي، وكالقطع بأن الليل يستمر شهورا والنهار شهورا في منطقة القطبين، أو بأن غروب الشمس في أقصى المشرق يسبق غروبها في أقصى المغرب وإن لم نر ذلك، ولو طلب أحد رؤية ذلك لأمكن اليوم أن تُنقل إليه صورة الغروب محسوسة مُبْصَرة يشاهدها بأم عينيه .
3 ـ تكرر حركة القمر مع الشمس بصورة منضبطة ثابتة معتادة لا تتخلف على مر السنين والدهور، واطراد ذلك دون تخلف ولا انخرام، يجعل ما أدى إليه من معرفة هذا التوقيت مقطوعا به بحسب العادة، فإن العادة إذا اطردت أفادت القطع، قال القرافي: (والعوائد إذا استمرت أفادت القطع، كما لو رأينا شيخا كبيرا فإننا نقطع بأنه لم يولد شيخا بل طفلا، لأجل العادة التي أجراها الله تبارك وتعالى بذلك، وإلا فالعقل يُجَوِّز ولادته شيخا).
فما ذكر من الحس والمشاهدة ونقل الكافة واطراد العادة، يدل على أن وقت الاقتران الذي لا يولد الهلال الجديد إلا بعد حصوله، صار اليوم من الحقائق العلمية القطعية التي لم يعد للخلاف فيها مكان، وأن التشكيك فيه من التشكيك في الضروريات .
توقف رؤية الهلال على حدوث الاقتران :
القمر لا تمكن رؤيته هلالا كالعرجون القديم ، الذي أخبر به القرآن ، إلا بعد أن يتطابق مع الشمس على خط واحد مع الأرض ( 180 درجة تقريبا) ويُحجب تماما عن الناظر إليه من الأرض (المحاق) بسبب عدم انعكاس أي كمية من ضوء الشمس على الجزء المواجه لنا منه ، لوقوع القمر بين الشمس والأرض ، ويغرب القمر حينها بغروب الشمس ، وبعد ذلك مع الحركة المتنامية ينعكس شيئ من ضوء الشمس على بعضه الذي كان محجوبا تماما ، فيُرى لنا على شكل الهلال، الذي برؤيته يثبت دخول الشهر القمري، ثم يكبر هذا الهلال فيما يُرى لنا منه ، كلما ابتعد القمر عن الخط الذي كان متعامدا فيه مع الشمس ، حتى يستوي بدرا، كامل الدائرة في منتصف الشهر (زاوية الصفر تقؤيبا ) ، ويكون في الاتجاه الآخر من الأرض ، ثم يعود تدريجيا كما كان، إلى أن يختفي تماما ويأتي المحاق ليولد الهلال بعده من جديد، ومعنى هذا أن الهلال يستحيل أن يرى هلالا قبل أن يحصل المحاق (اقتران الشمس والقمر).
قبول البينات في مجلس القضاء :
اتفق أهل العلم على أن شرط قبول شهادة الشاهد في مجلس القضاء : ألا تخالف المحسوسات والقطعيات، فإن الشهادة بما يخالف ذلك أو بما يعلم القاضي خلافه يجب ردّها، ولا يجوز قبولها، قال القاضي ابن العربي في تفسير قول الله تعالى: ﭽ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡﭼ: (فيه دليل على أن الشاهد إذا قال ما قام الدليل على بطلانه فلا تقبل شهادته).
وقال ابن عبد البر:(وأجمعوا على أنه إذا علم ـ أي القاضي ـ أن ما شهد به الشهود على غير ما شهدوا به أنه ينفذ علمه في رد شهادتهم، ولا يقضي ويردها بعلمه).
وفي درر الحكام في شرح مجلة الأحكام:( لا تقبل البينة التي أقيمت على خلاف المحسوس ... ولا تقبل البينة التي أقيمت على خلاف المتواتر، لأن التواتر يفيد علم اليقين فالبينة التي تقام على خلافه تستوجب رد الشيء الثابت بالضرورة واليقين، فمثلا لو ادعى أحد وأتى ببينة بأنه أقرض فلانا في الوقت الفلاني في المحل الفلاني كذا وكذا، وأثبت المدعى عليه بالتواتر أنه لم يكن في الوقت المذكور في ذلك المحل ... لا تسمع دعوى المدعي، لأنه قد علم ضرورة بأن المدعى عليه لم يكن في ذلك المحل) .
والفقهاء وإن اختلفوا في مسألة قضاء القاضي بعلمه، فأجازها الشافعية والحنفية في غير الحدود، ومنعها المالكية والحنابلة، لكنهم اتفقوا جميعا (الأربعة) على أن القاضي يحكم بعلمه في مسألة تجريح الشهود وتعديلهم .
قال ابن عبد البر: ( أجمعوا على أن للقاضي أن يعدل أو يجرح بعلمه )، لأنه لو لم يستند في التجريح والتعديل إلى علمه للزم التسلسل إلى ما لا نهاية، ولأننا لو منعناه من الحكم بعلمه ـ أي في التعديل والتجريح ـ لاحتاج كل مزك إلى من يزكيه.
وفي الإنصاف للحنابلة: ( ويحكم بعلمه بعدالة الشهود وجرحه، للتسلسل، ولأنه يشاركه فيه غيره+، وقال في موضع آخر: =فعمل الحاكم بعلمه في الشهود وحكمه بعلمه في الشهادة والجرح هو المذهب وعليه جماهير الأصحاب ).
ونقل القليوبي من الشافعية في حاشيته الإجماع على ذلك.
ونقل في موضع آخر عن العبادي قوله: ( إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال لم يقبل قول العدول برؤيته، وترد شهادتهم+ ثم قال القليوبي: ( وهو ظاهر جلي، ولا يجوز الصوم حينئذ، ومخالفة ذلك معاندة ومكابرة )، وكذلك السبكي في فتاويه، قال بعد أن عرض المسألة: ( فلا أرى قبول هذه البينة أصلا ولا يجوز الحكم بها ).
وفي البحر الرائق للحنفية، بعد أن ذكر أن طرق القضاء ثلاثة، وعد منها علم القاضي، قال: =فإنه ينفذ القضاء به في غير الحدود+ .
فهذه نصوص الفقهاء تتفق جميعا على أن القاضي يستند إلى علمه في تعديل الشهود وتجريحهم، وأنه لا يقبل شهادة العدول إذا علم أنهم شهدوا بما يخالف علمه، أو بما ليس له وجود ولا حقيقة، وأنه يجب عليه رد شهادتهم، لقول الله تعالى:
ولأن القاضي كما يتعين عليه النظر في حال شاهد الرؤية والتحقق من عدالته وحِدّة نظره وتيقظه، ومعرفته للجهة التي يخرج فيها الهلال، وأنه يرد شهادته إن وجد خللا في شيء من ذلك ـ يتعين عليه أيضا أن يكون لديه علم بالوقت الذي وقعت فيه الرؤية من الشاهد، وهل ذلك الوقت مما تمكن فيه الرؤية أم لا، لأن شرط قبول المشهود به الإمكان، فإن الشرع لا يأتي بالمستحيلات العقلية ولا العادية، وأيضا فإنه إذا كان الإمكان شرطا في قبول الإقرار على النفس وصاحبه محتاط لها ومتحرز لصالحها، فما بالك بالشهادة وهي على الغير، وللحمل عليها أسباب كثيرا ما تكون باطلة، منها تعبد الجهال بها، كما تعبدوا قديما بوضع الأحاديث عن النبي *، حسبة وتدينا في زعمهم، فقد يقصد الشاهد الجاهل التديّن بشهادة كاذبة ويرى أنه يؤجر عليها بحمل الناس على الصيام، ومنهم من يبتغي من أداء الشهادة تزكية لنفسه وتعديلا ووجاهة إلى غير ذلك.
وعليه فلو كنت قاضيا وشهد لك شاهدا عدل برؤية هلال غير موجود في الأفق وقت الرؤية فلا نصدقه ولا تقبل قوله على خلاف المتواتر المعروف ، فإن العقل والشرع يقولان لك: لابد أن يكون واهما وأنه رأى قمرا آخر غير قمرنا، وحاله لا يختلف عن حال من أخبرك أنه رأى فلانا ضمن عدد من الناس في مكان ما، وأنت تعلم يقينا أن فلانا هذا غير موجود في البلد في ذلك الوقت، أو أنه قد مات، فمثل هذا الشاهد لا يُشك أنه مُشَبَّه عليه، كالذي شُبِّه عليه أنه رأى الهلال وأتى إلى عمر "، فقال: رأيت الهلال، فأمره عمر أن يمسح حاجبه بالماء، ثم قال: أين الهلال، قال: فقدته، فقال: شعرة قامت من حاجبك فحسبتها هلالا.
فشهادة الشاهد برؤية الهلال قبل حدوث الاقتران شهادة بالمستحيل، كالشهادة على رؤية من لم يولد، ينبغي أن يقال لمن شهد بها امسح حاجبك، كما قال عمر "، وللوهم في الشهادة على رؤية الهلال اليوم ما يبرره، فالفضاء فيه من الأقمار الصناعية والكواكب والأجرام الأخرى غير الصناعية ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فقد تشتبه بعض هذه الأجرام على الناظر فيظن هلالا ما ليس بهلال، ويأتي ليشهد به عندنا، ونحن نعلم أن قمرنا في ذلك الوقت غير موجود ضمن تلك الأجرام .
وإذا دلت شهادة أهل العلم بالتواتر على أن الهلال غير موجود وقت الشهادة برؤيته رُدت الشهادة، قال ابن حجر في التحفة: ( والذي يتجه أن الحساب إذا اتفق أهله على أن مقدماته قطعية وكان المخبرون بذلك عدد التواتر رُدت الشهادة ).
بل إن شهادة الشاهد عند علماء المالكية تُكَذَّب بأقل من ذلك، فقد قالوا: إذا شهد شاهدان بهلال رمضان وصام الناس ولم يُر هلال شوال بعد ثلاثين يوما لغيرهما، وكانت السماء ليلة الواحد والثلاثين صحوا، كُذِّبت شهادتهما في إثباث أول شهر الصوم، ولو حكم بها حاكم، ويجب على الناس صوم الواحد والثلاثين .
فإن قال قائل: شهادة الشهود بوجود هلال لم يولد بعد لم تُعارَض بشهادة قطعية متواترة ولا بشيء من المحسوسات، لأن القاضي الذي حكم بالشهادة لم ير بأم عينيه وقتها موقع القمر، ولم يُنقل إليه بخبر متواتر يفيد القطع أن الاقتران لم يحدث.
فالجواب: لو سلمنا أن إخبار أهل العلم بثبوت هذه الحقيقة على كثرتهم لم يصر في معنى الخبر المتواتر القطعي، وأنه لا يعدوا أن يكون شهادة خبرة، كالتي يطلبها القاضي من أهل الاختصاص في قضية ما، لا تفيد إلا الظن، لو سلم ذلك، لكان الواجب على من رفعت إليه الشهادة برؤية الهلال التوقف عن الحكم بثبوت الشهر بالشهادة ، لمعارضتها بشهادة أهل الخبرة النافية ، فالبينتان الظنيتان إذا تعارضتا تساقطتا، هكذا يقول أهل العلم في باب القضاء ، وعند سقوط البينتين يجب الرجوع إلى استصحاب الأصل، وهو بقاء الشهر، الذي دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة )، بل إن الاستصحاب هنا حجة تُرَجِّح رد شهادة النفي ؛ ففي الشرح الكبير للدردير من المالكية: ( وإن تعذر ترجيح لإحدى بينتين تعارضتا، سقطتا، وبقي المتنازع فيه بيد حائزه ) أي استصحابا للحال السابق.
والشهادة عند جماهير الفقهاء تُرد بالريبة، فكيف لا تُرد بأمر قطعي أو راجح الصدق على أضعف الوجوه.
رد الشهادة ليس معناه إثبات الشهر بالحساب:
لا يختلف أحد على أن الشهر الشرعي هو ما بين الهلالين، ونجزم أن الذي دلت عليه السنة الثابتة وقال به جمهور الفقهاء من السلف والخلف أنه لا يدرك إلا بالرؤية أو بإتمام العدد ثلاثين، ولا يثبت الشهر بولادة الهلال أو إمكان رؤيته دون رؤيته بالفعل، كما يقول الحسابيون، وهذا المعنى دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ( لا تصوموا حتى تروا الهلال)، وقوله:( فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )، لكن لا ينبغي أن نخلط بين أمرين مختلفين فنسمي عدم قبول الشهادة ـ إذا دلت الأدلة على ردها ـ أخذا بالحساب في إثبات الشهر وردا للسنة، ونُحَمِّل قول النبي صلى الله عليه وسلم في ربط الصوم بالرؤية ما لا يحتمل، فنجعله يدل على أمر آخر، وهو وجوب قبول شهادة شاهد الرؤية مطلقا ولو اقترنت بما يُكذِّبها أو كانت في شهادته ريبة .
النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن نثبت الصوم بالرؤية ولا نثبته بغيرها من الحساب أو غيره، وهذا حق، لكنه لم يأمرنا بقبول شهادة كل شاهد، سواء كان الذي شهد به صحيحا أو باطلا، بل الشرع أمرنا بالتبين في قبول الخبر، فإذا اقترن به ما يجعله مردودا، كاستحالة وجود المشهود به، وجب رده، ووجب على الحاكم الذي أتاه شاهد بشهادة على ما يَعرف من نفسه أنه لا وجود له أو أخبره بذلك من يثق به، يجب عليه أن يردها ولا يحكم بها كما تقدم عن ابن عبد البر في نقل الإجماع على ذلك.
فبين إثبات الشهر بالحساب الذي تنفيه السنة، وبين وجوب قبول شهادة كل شاهد بالرؤية بون شاسع وفرق كبير، ويخطئ من يصور المسألتين أمرا واحدا، وأن رد شهادة من شهد برؤية هلال لم يولد هو رد للسنة وأخذٌ بالحساب، فهذا الأخير له في الفقه باب آخر؛ باب القضاء والشهادات، وليس محله باب الصيام.
وقد تعرض فقهاء الشافعية إلى هذه المسألة أكثر من غيرهم ، كالسبكي في فتاويه، وابن حجر في التحففة والقليوبي في حاشيته ، وبَيَّنوا أنه يجب رد الشهادة التي دل الحساب على عدم صحتها على أساس القدح في الشهادة، لا من جهة الأخذ بالحساب، وسبب اعتراض من اعترض على السبكي من متأخري الشافعية وغيرهم كما نقل عليش المالكي في فتاويه ـ سببه عندي أن السبكي يصور المسألة التي تُردّ فيها شهادة الشهود في هلال قد ولد بالفعل ـ أي حصل فيه اقتران الشمس مع القمر ـ لكن لا يزال في غاية القرب منها، بحيث تتعذر رؤيته عادة، وهذه عبارته، قال: ( وها هنا صورة أخرى، وهو أن يدل الحساب على عدم إمكان رؤيته، ويُدْرَك ذلك بمقدمات قطعية، ويكون في غاية القرب من الشمس، ففي هذه الحالة لا يمكن فرض رؤيتنا له حسا، لأنه يستحيل، فلو أخبرنا به مخبر أو شهد به شاهدان لم تقبل شهادتهما ).
فالاعتراض على فتواه بعدم قبول الشهادة هو على هلال قد ولد، لكن أشعة الشمس تمنع رؤيته عادة، هذا الاعتراض قد يكون له وجه، فإن الشهادة التي ردّها شهادة على شيء موجود، واحتمال رؤية الموجود قائم ولو كان ضعيفا، لكن احتمال رؤية غير الموجود مستحيلة، فأي فقيه يصحح مثل هذه الشهادة، لذا فالاعتراض عليه من المتأخرين في كتب الفقه لا أرى أنه تنطبق على مسألتنا ، التي وقعت فيها شهادة على هلال لم يولد.
الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحون:
بعد عرض أقوال أهل العلم فيما ينبغي للقاضي عمله إذا رفعت إليه شهادة يعلم عدم صحتها، وتبين لنا أنهم اتفقوا على أنه يحكم بعلمه في تجريح الشهود لا بما لديه من الشهادة ـ يتعين بيان معرفة ما يجب على من بَلَغه الحكم بدخول الشهر بناء على رؤية يعلم هو عدم صحتها، فهل يجب عليه أن يعمل بما بلغه من الحكم أم بما علمه من عدم صحة الرؤية، روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس )، فما معنى ذلك؟.
معنى هذا الحديث عند جمهور أهل العلم على ما فسره به الخطابي؛ وهو أنه محمول على ما إذا اجتهد الناس في الفطر أو الصوم أو الوقوف ثم تبين خطأ اجتهادهم، فإنه لا حرج عليهم، لأن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، قال الخطابي: فلو أن قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد ثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين، فإن صومهم وفطرهم ماض لا شيء عليهم من وزر أو عيب، وكذلك هذا في الحج إذا أخطؤوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادته .
وهذا المعنى المتقدم في تفسير الحديث محمول عند جمهور أهل العلم على من لم يعلم ما يخالف ما عليه الناس، أما من علم من أمر الهلال شيئا يتيقنه يخالف أمر الناس، فإنه يتعين عليه حكم نفسه فيما تيقنه، فإنهم ذكروا نظير هذه المسألة فيمن رأى الهلال ولم يُحكم برؤيته، قالوا: يتعين عليه في الصوم العمل بما علم، ولا يجوز له الفطر.
وخالف محمد صاحب أبي حنيفة وعطاء والحسن فقالوا: إن من رأى الهلال ولم يحكم القاضي بشهادته لا صوم عليه، وعليه أن يصوم مع الناس ولا يعمل بحكم نفسه.
ففي الشرح الكبير للدردير: ( ومن رأى هلال رمضان ورفعه إلى القاضي ولم يحكم به وجب عليه الصوم، وإذا أفطر فعليه القضاء، وفي وجوب الكفارة خلاف )، ولا يفطر من رأى هلال شوال لئلا يتخذه أهل الفسق ذريعة، وقال أشهب يفطر بالنية ويمسك عن الأكل، قال وهو الصحيح، وفطره بالنية واجب .
وبوجوب صوم من رأى هلال شهر رمضان وحده ولم يُحكم بشهادته قال الحنفية والشافعية والحنابلة أيضا.
وفي هلال شوال قال الشافعية: يفطر لرؤية هلال شوال سرا لئلا يتعرض للتهمة في دينه، وعللوه بأن يقين نفسه أبلغ من الظن الحاصل بالبينة.
وعند الحنابلة في هلال شوال خلاف ؛ قيل يفطر سرا، لأنه يتيقن يوم العيد، وصوم العيد حرام، والقول الثاني: لا يفطر، احتياطا، لاحتمال خطئه.
وعند الحنفية يصوم العيد احتياطا، وقيل: يفطر سرا، أو يفسد صومه ولا يأكل، والله تعالى أعلم.
الخلاصة
خلاصة هذا البحث أن الإعلان الحسابي لتوقيت اقتران الشمس مع القمر صار من الحقائق العلمية القطعية، وأن جمهور أهل العلم اتفقوا على أن القاضي لا يحكم بثبوت شهر الصوم أو الفطر أو الحج بناء على شهادة فيها ريبة، فضلا عن أن يكون الحساب والحقائق العلمية تقطع ببطلانها، وأنهم اتفقوا أيضا على أن القاضي يحكم بعلمه في تعديل الشهود وتجريحهم، ولا يحكم بشهادتهم التي يعلم عدم صدقها، ورَدُّ مثل هذه الشهادة وعدم الحكم بها في الصوم أو غيره لا يعني أن القاضيَ ردَّ حديث النبي *: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )، وأنه أخذ بالحساب، لأن الأمرين مختلفان، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر في هذا الحديث ولا في غيره بوجوب قبول شهادة كل شاهد، بل الشرع هو الذي أمر بالتثبت في قبول الأخبار ورد الكاذب منها.
وإذا أخطأ القاضي وحكم بشهادة من ادعى رؤية يُكذِّبها الواقع كالشهادة على رؤية هلال لم يولد، فمقتضى كلام جمهور أهل العلم أن على من علم بخطإ هذه الشهادة ألا يعمل بمقتضى الحكم المبني عليها، بل عليه أن يعمل بما علم، ومثله كمثل من رأى الهلال ولم يُحكم بشهادته فإن الفقهاء اتفقوا على أنه يجب عليه في خاصة نفسه الصوم، ووجهوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحون ) بأنه محمول على الخطإ في الاجتهاد حين يجتهد الناس ويحكمون بصوم أو فطر ثم يتبين لهم بعد ذلك خطأ اجتهادهم، فإنه لا حرج عليهم، أما من يعلم بادئ الأمر القطع بخطإ الحكم فيجب عليه أن يعمل بما علم ولو خالف الناس عند الجمهور، خلافا لمحمد بن الحسن الشيباني والحسن وعطاء.
والمخلص من هذ الحرج أنه يتعين اليوم الأخذ بما قرره عدد من المجامع العلمية في الشرع والفلك من العمل بالحساب في جانب النفي دون جانب الإثبات، فإن الحساب إذا اتفق أهله على أن الهلال لم يولد فإن اتفاقهم يفيد القطع، ولا تُقبل شهادة من خالف ذلك وادعى الرؤية، فقد جاء في مؤتمر تحديد أوائل الشهور المنعقد بتركيا بتاريخ 17/11/1978 في الفقرة الثانية منه بما مفاده أن إمكان الرؤية لا يكون إلا بعد حدوث الاقتران، وأن يبقى القمر بعد غروب الشمس مرتفعا في الأفق بمقدار خمس درجات .
وكذلك جاء التأكيد على هذا في الدورة الثانية من المؤتمر المذكور المنعقد في استانبول بتاريخ 19/3/1979، وفي مؤتمر وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالكويت، وفي توصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة العالم الإسلامي بجدة الذي أوصى في قراره رقم 18 بالاعتماد على الرؤية في إثبات الشهر مع الاستعانة بالحساب الفلكي .
فما قيمة هذه القرارات المُعَطَّلة والصادرة من مؤتمرات علمية دُعِيَ إليها نخبة من خيرة علماء الأمة ، من كل حدب وصوب ، وصرفت عليها أموال طائلة ، ثم ضرب بقراراتها عُرض الحائط ، حتى تلك الدول التي دعت إليها وعُقِدَت المؤتمراتُ في جنباتها لم تعبأ بهذه القرارات ولم تُقم لها وزنا، وكأن المؤتمرات في عالمنا الإسلامي يقتصر دورها على المهرجان والاحتفال بها في الإعلام ، وإصدار بيانات الختام ، ثم على القرارات السلام ، فمتى تستيقظ الأمة وتبصر ما يُصنع بتوصيات المؤتمرات في بلدان المؤتمرات ؟؟!!.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
تاجوراء – 4/1/2008