بسمِ الله الرحمن الرحيم
قلتُ في مقالٍ سابق: (حِفاظًا على وحدةِ الصفِّ، التي هي أساسُ كلّ نجاحٍ لتفاوض مُثمر، فإنّ كلَّ مَن تدعُوهُ بعثة الأممِ المتحدة للجلوسِ معها، مِن المَحسوبين على طرفِ الثورةِ - بمختلف أطيافِه وأوصافه - كل مَن تدعوهُ لذلك، ينبغِي أن يكونَ جوابُه: المؤتمرُ الوطنيّ يمثلني، فهو الجهَة المخوّلة بالحوارِ نيابةً عني).
وأضيفُ هنا: هذا ليسَ لأنّ المؤتمرَ الوطنيّ هو الأعرفُ بالسياسةِ مِن غيرهِ في ليبيا، أو الأحرَصُ على الوطنِ مِن الآخرين، فقد يكونُ في الآخرين - دون شك - مَن هو أحرصُ منه أو أعرفُ بالسياسة، ولكن هذا الجوابُ يحفظُ مصلحةَ البلد، وله أسبابٌ حقيقيّة تدعُو إليه.
أولُها - أنّ المؤتمرَ هو ولي الأمرِ الشرعيّ، الذي تجب طاعتُه في المعروفِ، كمَا أمرَ اللهُ تعالى في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، ولا خيارَ لأحدٍ في ذلك.
ثانيها - أنّه السبيلُ الآمن لِقطعِ الطريقِ، عمّن يبحثُ لنفسه عن دورٍ مِن خِلال الحوارِ، أو يشارك فيهِ باسمِ الثوار، وسلوكُه يقولُ: لمْ يبقَ له مِن الثورةِ إلا الشعار.
ثالثُها - توصيلُ رسالةٍ للمجتمعِ الدولي، أنّه لا خيارَ له - إن أرادَ أن ينجحَ في مهمتِه - إلّا بالتعاملِ مع المؤتمرِ الوطني، فبدونه لن يكونَ في ليبيا حوارٌ، وذلك دعمٌ حقيقي للمؤتمر، يمَكّنه مِن التمسكِ بثَوابته التي أعْلَنها، ولن يجد نفسه مُضطرا إلى أنصافِ حلولٍ، تُفرضُ عليه لاختلافِ الفريقِ الذي يمثّله
هرولةُ كلّ مَن تدعوه البعثة الأممية إلى الجلوس معَها للحوار، سواءٌ مِن الشخصيات العامة، أو البلدياتِ، أو الثوارِ، دونَ تنسيقٍ وتفويضٍ مِن المؤتمر، وتوافقٍ في الخطابِ، قد تكونُ له مخاطِرُ حقيقيةٌ بمصيرِ الوطن؛ لأنهُ مِن الخلافِ، والخلافُ شرّ، ولأن الهدفَ منه ليس إلا إظهارُ الاختلاف بينَ الفريق الواحد، وأشدّ الاختلاف ضررًا، اختلافُ موقفِ مَن يُفاوِض مِن جبهاتِ القتال، للعملِ على إضعافِها.
ولا يَخفَى أن العملَ على إضعافِها - تمهيدًا لفرضِ شروطٍ تذهَبُ بثوابتِ المؤتمرِ في الحِوارِ - جارٍ على قدمٍ وساق.
لقد تسرّبَ مؤخّرا مِن خلالِ فوضَى الحوارِ - الذي تكاثرَ وتنافَرَ دونَ مرجعيةٍ واحدةٍ، ولا ضابطٍ ولا رابِط - إلى بعضِ الدولِ المهتمةِ بالشأنِ الليبي، أنّ مصراتة قررتِ الانسحابَ مِن الجبهاتِ، يشيعونَ هذا للتّخذيلِ، وتفتيتِ الجبهاتِ، ليتأتَّى معه فرضُ شروطٍ وإملاءاتٍ، يُخشَى من خلالها أن تُسلمَ البلدُ، إلى مَن لا يراعِي في أهلِها إلًّا ولَا ذمةً.
التعدديةُ غيرُ المنضَبطَة، الفاقدةُ للمرجعيةِ في الحوار، هي التِي جعلتِ البعثةَ الأمميّة الآنَ تعلقُ الحوارَ، عندمَا علّقه برلَمان طبرقَ المنحل، ولم تعلّقه عندَما علّقه المؤتمرُ الوطنيّ العام في وقت سابق؛ لأنها حينَها وجدت مَن سعَى إلى جنيف، ليحِلّ محلَّ المؤتمرِ، ويملأَ الفراغَ، فما احتاجَت إلى تعليقِه، ولم تُبالِ بغيابِ المؤتمر.
العبرُ نراها عَيانًا، لا تحتاجُ إلى اجتهادٍ، ولا استنباطٍ، تصيبُنا سهامُها، وتحذرُنا عاقبةَ الخلاف؛ (ولا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا)، فهلْ مِن مُدّكر؟!
الأممُ المتحدةُ يعنِيها إنجاحُ الحوارِ، وإنجاحُ الحوارِ من منظورها هو استقرارُ ليبيا؛ بإيجادِ حاكمٍ يسيطرُ، ويضبطُ النظامَ، حتّى لا يكونَ إرهابٌ، ولا هجرةٌ غيرُ شرعية، ثمّ لا يهمُّ بعد ذلك، ما إذَا كان الذي يسيطرُ جنكيزخان أو حفتر، أو نظامٌ قاضِيهِ يصدرُ حكمًا بالإعدامِ على خمسمائةِ متّهم أو أكثر مِن مُعارضيهِ، في جلسةٍ واحدةٍ، بجرةِ قلم !
أو يتوصلُ إلى السيطرة بتنصيبِ حاكمٍ - تحتَ ما يُسمى توافقًا - يفعلُ بليبيا كمَا يفعلُ حفتر اليومَ ببنغازِي وأهلِها !!
هذا الأنموذجُ الذي نراه اليوم يدمر بنغازي، أو ما كان على شاكلته ممن يمكن أن يسمى الحاكم التوافقي، لن يؤرقَ مضجعَ المجتمعِ الدولي، كما لم يؤرّقه في بلادٍ أخرى جارة، انتكسَت فيها الثورةُ، والأحكام على من شارك فيها تِباعًا، تتراوحُ بين المؤبدِ والإعدام !!
فتأملُوا يا مَن تُجهضُون الحوارَ بفوضى الحوار ، فلن تبكيَ علينا الأممُ المتحدة آخرَ النهار.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الأحد10 جمادى الآخرة 1436 هـ
الموافق 1 مارس 2015 م