حوار مع ناقم ( 3 )

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرّحيمِ
(حوارٌ مع ناقِم) (3)

قال صاحبي الناقم عنِ الوضعِ: كلُّ فريق يقولُ إنهُ على الحقِّ، وقتلاهُ في الشهداءِ.
قُلتُ: مَن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ يوالِي ويعادِي على الدِّينِ، ويرَى مرتزقةَ الروسِ الملاحدةَ تُقاتلُ مع الفريقِ المعتدِي على طرابلس؛ لابدَّ وأنْ يكونَ قد تبيّنَ له المُحقُّ مِن المبطلِ، وهل تراهُ يخطرُ ببالهِ أنَّ جِيفَ القتلَى مِن الملاحدةِ في الشهداءِ؟! وإنْ قالَ بعدَ الآن، وهو يرَى جندَ الروسِ يغزونَ بلادهُ، وينتهكونَ حرماتِ ديارِه بمساندةِ الظالمينَ: لا أدرِي، فقد يقال لهُ إذا لقيَ ملائكة ربه: لا دَريتَ ولَا تليتَ.

قال: أنَا أؤمِن أنّ المخْلَصَ اجتماعُ الكلمةِ، لكنّ الطريقَ إلى ما تجتمعُ عليهِ الكلمةُ مُضبّبٌ مُشوّشٌ.
قلتُ: توجدُ وسائلُ لتكشيفهِ، وتُعينُ الطالبَ للحقيقةِ على توصيفِهِ.

قال: ما هذه الوسائلُ؟
قلت: أنْ تسمعَ لوجهاتِ النظرِ، وإلى ما يدعُو إليهِ كلُّ فريقٍ، فإذا سمعتَ بتجرّدٍ تامٍّ مَيّزتَ الصدقَ مِن الكذبِ.

قال: أنا لا أسمعُ لأحدٍ، وقمتُ بتشفيرِ كلِّ القنواتِ الليبيةِ.
قلت: لماذا؟
هلْ أنتَ ممّن يضعُ في أذنيهِ القُطن خوفًا مِن الحقيقةِ؟!

قال: لا، وإنّما لعدمِ المصداقية فيما يُطرحُ، فلكلِّ قناةٍ أجندَتُها.
قلت: هل تُشاهدُ قناةَ التناصحِ، أو ما تنشرُهُ دارُ الإفتاءِ؟

قال: لا.
قلت: إذًا تحكمُ على شيءٍ وأنتَ لا تعرفه؟ والحكمُ على الشيءِ فرعٌ عن تصوُّرِهِ.
هذا حكمٌ غِيابيٌّ، وتخرُّصٌ مذمومٌ، ليس فيهِ إنصافٌ، قال اللهُ تعالَى: (قُتِلَ الخَرّاصُونَ).

قال: لا أُتابعُهُما؛ لأنّ المفروضَ في شيوخِ دار الإفتاء أنْ يكونُوا على الحِيادِ، ولا ينحازُوا إلى طرفٍ؛ ليثقَ فيهم الجميعُ.
قلت: عندما يكونُ هناكَ حقٌّ وباطلٌ، ومنكرٌ ومعروفٌ، وجنودُ روس مرتزقةٌ يَغزُونَ البلادَ، ويدنِّسونَ الحرماتِ، يكونُ السكوتُ منكرًا وخيانةً، وانحيازًا إلى الباطلِ يستوجبُ غضب الله، وليس حيادًا، فقد لعنَ اللهُ بني إسرائيلَ لأنّهم كانوا لا يَتناهونَ عن منكر فعلوه، فالشيوخُ أو غيرُهم إنْ سَكتوا وداهنُوا، ولم يُبينوا، وسَوَّوا بينَ الضحيةِ والجلادِ؛ استحقُّوا اللعنَةَ.

قال: مِن المعلومِ أنّ التناصُحَ ودارَ الإفتاءِ يُدخلانِ الدينَ فِي السياسةِ، وهذا غير مقبولٍ.
قلتُ: لعلك تقصدُ بإدخال الدين في السياسة الكلامَ في الموضوعاتِ الآتيةِ: الحُكمِ والمالِ والاقتصادِ ومحاربة الفسادِ، الذي بلغَ حدًّا في ليبيا جعلَها على مستوَى العالمِ مضرِبَ الأمثالِ، وعن الأمر بالعدلِ والتحذير مِن الظلمِ، والتنديدِ بسجونِ التعذيبِ والاعتقال خارجَ القانون، والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، ومُوالاةِ المؤمنينَ ومعاداةِ الظالمينَ، وعدمِ الرّضا بالذلِّ والهوانِ والتدخلِ الأجنبيِّ، ورفض الاستسلامِ للعدوِّ، واستباحة العدو الديار وانتهاك السيادة الوطنية، والمطالبةِ بالحقوقِ وكرامة الإنسانِ؛ ليكونَ عزيزًا على أرضهِ، ونحوِ ذلكَ ممّا تتكلمُ عليه دارُ الإفتاءِ وقناةُ التناصحِ، فإن كانَ هذا هو الذي تعنيه فإنِّي أقولُ: هذا كلّه مِن صميمِ الدينِ، ومِن أصولِهِ، لا مِن فروعهِ.

وما تُقدمُه قناةُ التناصح مِن خلالِ ضيوفِها وبرامجها الجادةِ الهادفة في هذه الموضوعات، هو ضمن رسالتها في الإصلاحِ والتوجيهِ، وهو - مع إخلاصِ النيةِ - مِن الجهادِ بالكلمةِ، الذي لا يقل خطبُه في هذا العصر عن الجهاد في ميادين القتال، ومِن العملِ الصالحِ، الذي أجرهُ لا ينقطعُ.
والقولُ بأنّ الكلامَ في هذا هو مِن السياسةِ وليس مِن الدينِ، افتراءٌ علَى الدّينِ، فما مِن بابٍ مِن الأبواب التِي ذكرتُ، إلَّا وفيهِ آياتٌ مِن القرآنِ تُتلَى، وسنةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ تُروَى.

ومَن نَفَى أنْ تكونَ هذه الأبوابُ مِن الدينِ، فقد أخرج منه شُعبَ الإيمانِ، وصارَ مِن كبارِ مرجئةِ الزّمانِ.
ومَا انحطَّ المسلمونَ وسقطَتْ هيبتُهُم، وتسلَّطَ عليهم أعداؤُهُم، وسامُوهُم سوءَ العذابِ بالذل والهوان، إلَّا بعدَ أنْ أدخلُوا في عقُولِهم هذا المفهومَ المنحرِفَ، وهو فصلُ الدّينِ عنِ الدولةِ.

ثمّ مَا الذي أحلَّ للإعلامِ الموجّه المأجور الخوضَ معَ الخائِضِينَ، بكلام الزُّورِ والكذبِ وقلبِ الحقائقِ وتضليلِ الناسِ، وما الذي أحلَّ له الرّقصَ والمُيوعةَ والمُجونَ والقِمارَ وسيّءَ العادات وإفسادَ الأخلاقِ، والاستهتارَ بالمقدسَاتِ، والاستهزاءَ بثوابتِ الدينِ، وحرّمَ على المصلحين في كل فن وتخصص التوجيهَ والإصلاحَ وتوعيةَ الناسِ؛ ليبعثوا فيهم روح التنافس وعلو الهمة، لتنهض بلدُهم، وتتخلص من التبعية والهَيمنة، وتتحرر من الذلّ والاستعباد.

وما الذِي أحلَّ لغيرِ الشيوخِ أن يتكلمُوا فيمَا يشتهُونَ، وقيَّدَ الشيوخَ فلا يتكلمُونَ على الإعلام إلَّا في الطّهارةِ ودفنِ المَوتَى؟!
معيارُ ما يُقالُ في الإعلامِ وفي غيرهِ وما لا يقالُ، هو القولُ وليسَ القائلَ، هو الصدقُ والكذبُ، وما يحلُّ وما لا يحِلُّ، لا مَن القائلُ ومَا صِفتُهُ!

قال صاحبي: الشيوخُ عندما يتكلمُونَ في الشأنِ العامِّ يتكلَّمونَ فيه بالحلالِ والحرامِ، ويحتكرُونَ ذلك لأنفسِهم، وهذا من استغلالِ الدِّينِ.
قلتُ: ما تنزلُ بالناسِ مِن نازلةٍ في سياسةٍ ولا حكم، في سلمٍ ولا حربٍ، في برٍّ ولا بحرٍ؛ إلَّا وللهِ فيها حُكمٌ، والمسلمُ سواء كان مِن أهل السياسةِ أو مِن غيرها، لا يحلُّ له أن يُقدمَ على عملٍ حتّى يعلمَ حُكمَ الله فيهِ، هذه مسألةٌ لا اختلافَ عليها، نقلَ الشافعيُّ والعلماءُ الإجماعَ عليها.
ومَن تُراهُ المخوّل ببيانِ هذا الحكمِ الشرعيِّ، الذي لا بدَّ للناس منهُ في كلِّ نازلةٍ، إنْ لم يكنْ عالِم الشريعةِ؟! قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون)، ولا شك أن النازلة إن كانت بها جوانبُ أخرى غيرُ شرعية فإنه مطلوب منه قبل أن يُصدر الحكم أن يسأل هو أيضا أهل الذكر.

وقد أدركَت التّناصحُ - وفقَ الله القائمين عليها - ما لهذَا البيانِ مِن أهميةٍ، ومَا للتعليمِ المنهجيِّ المتخصصِ في قراءةِ الكتبِ على الشيوخِ من مكانةٍ في نفوسِ العلماءِ وطلابِ العلمِ، فحمَلت على عاتِقها عِبْءَ هذه الرسالةِ، بإحياءِ سنةِ التلقّي على الشيوخِ فيما تبثُّهُ على مدارِ الأسبوعِ، مِن خلالِ برنامجِها (الكراسي العلميةِ) المتنوعِ القطافِ، في التفسيرِ والقرآت والفقهِ والسيرةِ وعلم النحوِ.

وكذلك ما تبثُّهُ القناةُ من برامج الفتاوَى المباشرة على الهواء لشيوخِ دار الإفتاء، على مدار أيام الأسبوعِ، يبينونَ للناس الأحكام، ويميطونَ عنها اللثامَ، ينفونَ عن العلم تحريفَ الغالينَ وتأويلَ الجاهلينَ وانتحالَ المُبطلينَ، هذا بعض جهد التناصح في نشرِ العلمِ، وتلبية حاجة المستفتين.

وعلى الجانب الآخر في برامجها العامة المتنوعة، لعلَّها القناةُ الوحيدةُ في بلادِنا المنضبطةُ بالضوابط الشرعية، والمتقيدة بقدرِ الطاقةِ فيما تعرضه بما يحلُّ وما لا يحلُّ، فهي القناة التي تستطيعُ الأسرةُ المسلمةُ أنْ تجتمعَ عليها دونَ أنْ تسمعَ زورًا، أو تشاهِدَ ما يخدشُ الحَياءَ.

وهذا الأداءُ المنضبطُ في عالمِ الإعلامِ اليومَ قليلٌ، بلْ نادرٌ، وكله مع إخلاصِ النيةِ في الدعوةِ إلى الله ونشرِ العلمِ مِن الصدقةِ الجاريةِ، التي لا ينقطعُ أجرُها.
فكلُّ مَن أنفق وأسهمَ في هذهِ القناةِ المباركة بجهدٍ أو مالٍ أو تشجيعٍ، له من الأجر فيمَا تنشرُهُ من العلم والخير أوفرُ نصيب، فإن الإنفاق على تعليم الناس الخيرَ وشعائرَ الدين من العمل الصالح الذي ثوابه لا ينقطع.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الاثنين 15 صفر 1441 هـ
الموافق 14 أكتوبر 2019 م

 
 
 
 

التبويبات الأساسية