نازلة جديدة في الحكم برؤية هلال لا وجود له

بسم الله الرحمن الرحيم

نازلة جديدة في الحكم برؤية هلال لا وجود له

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

وبعد.

فقد افترق العالم الإسلامي في بداية عيد الفطر هذا العام كما افترق في أعوام سابقة، فأعلنت نيجيريا عيدها يوم الاثنين، بناء على رؤية مزعومة لهلال لم يولد بعد، وأعلنت السعودية ودول الخليج عيدها يوم الثلاثاء بناء على رؤية في بعض البلدان حسب تعبير البيان السعودي، وأعلنت مصر في بيان دار الإفتاء المصرية أنهم تحروا رؤية هلال شوال ليلة الثلاثاء، فلم تثبت لديهم رؤية، قالوا: وهو ما يتفق مع علم الحساب بعدم وجود القمر بعد الغروب في الأفق ليلة الثلاثاء، وعليه فالثلاثاء متمم لشهر رمضان، والأربعاء هو أول أيام العيد، وبعض البلاد الآسيوية عيدها بالخميس.

والاختلاف في ثبوت الشهر في ذاته لا عيب فيه، وليس فيه ما ينكر ما دام مبنيا على قاعدة شرعية صحيحة، إذ أن له أصلا في حديث كريب مع ابن عباس رضي الله عنهما في اختلاف المطالع، الذي خرجه مسلم في الصحيح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما أنه لا ينكر على الناس أداء صلواتهم في أوقات مختلفة ينبغي ألا ينكر عليهم الاختلاف في بداية الصوم أو الفطر، فلا إشكال في ذلك، فلكل جهة وقتها في الصلاة وميقاتها في الحج ومطلع هلالها في الصوم.

وليس الإشكال أيضا في هذه النازلة المتكررة مع الذين يعلنون عن بدايات الشهور صوما وفطرا، بناء على ثبوت الشهر الفلكي، وحصول الاقتران في أي وقت من ليل أو نهار، وأنه متى ما حصل الاقتران قبل طلوع الفجر جعلوا اليوم التالي بداية الشهر الجديد، لأن هذا مذهب محدث لا يقول به أحد من فقهاء المسلمين، وبطلانه واضح، يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاثِينَ )، على حين أنهم يجعلونه تسعا وعشرين وكسرا، كما ترده آيات القرآن ونصوص السنة التي تربط عبادة الصوم برؤية الأهلة.

ولا إشكال كذلك مع الذين يذهبون إلى أن الشهر يثبت متى ما حصل الاقتران قبل غروب الشمس، وبقي الهلال في الأفق بعد الغروب، وأنه لو انتفت الموانع لأمكنت رؤيته ولو لم ير بالفعل، لأن العبرة بوجوده وقت الوجوب لا برؤيته، فهذا قول له أصل لدى فقهاء المسلمين، يقول به بعض فقهاء الشافعية وبعض البغداديين من فقهاء المالكية، ولو أنه مرجوح عند جمهور العلماء.

وإنما الإشكال الحقيقي الذي يقع معه المسلمون في الحرج والحَيرة، هو في ثبوت الشهر بالرؤية، بناء على شهادة الشهود، في البلاد التي تقول إنها لا تعتد إلا بالرؤية، والهلال المشهود به لا وجود له في الأفق تلك الليلة، وقد تكرر هذا أعواما وأعواما، فإلى متى يتم الحكم برؤية هلال لا وجود له، ونمضي في هذا الوهم، ونقيم عليه شعيرة من شعائر عباداتنا ؟!

الجمعية الفلكية السعودية بجُدَّة، في بيان لها على موقعها، تذكر أن ثلاث كواكب ترى في الأفق الغربي لأهل الكرة الأرضية، هي المريخ والزهراء وعطارد، وأن عطارد يرى مضاء لأهل الأرض بنسبة 12 في المائة، وهو وإن كان لا يرى على شكل هلال إلا بالمناظير، فإنه تمكن رؤيته على أنه جسم لامع بالعين المجردة، فهل آن لنا أن نستفيد من العلم بما لا يخالف شرع الله وحكمه؟ أم نتمادى في رد كل عقلاني باسم الدين، ونجادل في المسلمات بدعوى إمكانية رؤية شيء لا وجود له، ونلوّي عنق النصوص، ونتعسف في فهمها، لنخضعها لما نريد، رضي من رضي، وكره من كره، وكأننا في العصور المظلمة؟

وكلما تكرر هذا اللبس، مر أهل الذكر من طلاب العلم وأئمة المساجد بوقت عصيب، ووقعوا في حرج شديد وحيرة، ترجع بهم إلى الجدل نفسه في بدايات شهور صوم وحج سابقة، حيث يسمعون بيانات شرعية بثبوت الشهادة برؤية أهلة لا وجود لها في الواقع.

ونازلة عيد فطر هذا العام 1429 هـ، وإن كانت شبيهة بالتي قبلها والتي قبلها وقبلها ...، فإن الجديد فيها أن ثبوت شوال الذي حُكم به بناء على شهادة الشهود برؤية هلال لا وجود له حسابيا وقت الرؤية ـ لم يُبيَّن فيه بالتحديد موضع تلك الرؤية ولا في أي بلد هي، بل جاء الحكم به على خلاف العادة غامضا، لم تنسب فيه الرؤية إلى مكان بعينه، واكتفى بالقول بثبوته (بشهادة عدد من الشهود الثقات في عدد من البلدان) وذلك في البيان الوحيد بالرؤية، الصادر من السعودية، ولا يُعلم ثبوت الشهر بالرؤية تلك الليلة من مصدر آخر غيره، وعبارة (عدد من البلدان) التي جاءت في البيان السعودي، لا يدرى ما إذا كانت هذه البلدان خارج السعودية، وهو المتبادر من (البلدان)، أم هي مناطق داخل السعودية، لم تسم، على خلاف المعهود في بيانات سابقة، ولم تدع إلى حد الآن أي بلد من البلاد الإسلامية فضلا عن العربية الرؤية ليلة الثلاثين من رمضان الماضي، عدا الدعوى النيجيرية المضحكة برؤيته ليلة الاثنين التاسع والعشرين قبل ولادته، وما عدا دعوى بعض الجبهات المتناحرة في الفلبين برؤية الهلال بعد ولادته عندهم بساعتين، مع هطول الأمطار الغزيرة والسماء المغيمة، حسب التقرير الوارد من جبهة أخرى من جبهات الفلبين التي كذبت البيان المذكور.

ذلك أن المصادر الفلكية اجتمعت على أن هلال شوال يولد صبيحة الاثنين 29 من رمضان الساعة 11 و 12 دقيقة بتوقيت مكة المكرمة، وأنه في جميع البلاد العربية يغرب قبل غروب الشمس، ولا يبقى بعد الغروب ليلة الثلاثاء، إلا في نيجريا لمدة أربع دقائق، وكذلك في بعض بلاد أمريكا اللاتينية، واستبقت نيجيريا ولادة الهلال فادعت رؤيته قبلها !!

لا تعارض بين إثبات الشهر بالرؤية ونفي الفلكيين لإمكانية الرؤية:

الذين يصدرون بيانات بإثبات الرؤية على الرغم من استحالتها، يحتجون بأنهم يقيمون الحكم الشرعي، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: ( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ )، ويقولون لا التفات لقول الفلكيين والحسابيين بوجود الهلال أو عدم وجوده، فإن الأخذ بقولهم أو الاسترشاد به في نفي أن يكون الهلال موجودا ولو بما يقدح في الشهادة، هو من العمل بالحساب، والرد للسنة، حسب قولهم !

وهدا لبس بيّن سبق لي مناقشته في كلمة سابقة، بعنوان (الحكم برؤية هلال لم يولد وتحير الناس)، وقع فيه خلط بين أمرين لا صلة بينهما، بين إثبات الشهور برؤية الأهلة، الذي أمرت به السنة، وبين عدم رد شهادة الشاهد التي اقترن بها ما يكذبها، فصار القدح في الشهادة من الرد للسنة، على حين أن التثبت في الشهادة والتبين في قبولها من ردها بما يقدح فيها مما دلت عليه السنة والقرآن، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم  أمرنا ـ على هذا الفهم الغريب ـ بألا نرد شهادة الشاهد أيا كان، ما دامت شهادته برؤية شهر الصوم، ولو فعلنا لكان ذلك ردا للسنة، فهل على هذه النتيجة العجيبة دليل من كتاب أو سنة؟ أم هو الرأي من غير برهان ؟!

الحسابيون من أهل الفلك في نازلتنا هذه لم يثبتوا الشهر بالحساب حتى نجعل قولهم معارضا للأمر بالصوم بالرؤية، الذي جاءت به السنة، وإنما قالوا لنا ونحن بصدد إصدار حكم في مجلس القضاء: انتبهوا، فلدينا شهادة خبرة لا تفوتكم، فعلينا أن ننتبه، وعلى من يتولى الحكم أن ينتبه أيضا، ويصغي لشهادة عرضت عليه ممن هم أهلها وذووا الاختصاص فيها، وهم في توافقهم عليها ـ دون اختلاف بينهم فيها يذكر ـ وفي كثرتهم، يَصِلون في عددهم إلي حد التواتر، الذي يقطع سامعه باستحالة تواطئهم علي الكذب فيما أخبروا به، والشهادة المقدمة إلى مجلس القضاء، في قضية معروضة للحكم فيها، أيا كانت هذه القضية، هي من الأدلة التي يترتب على تجاهلها والإعراض عنها الخلل في الحكم، هذا هو تصوير المسألة تماما بحيادية وإنصاف.

الشهادة التي يؤديها علم الفلك اليوم، هي شهادة على الملأ للعالم أجمع، وكأنه يقول للعالمين: من كانت له أدلة على غير هذا فليأت به، ولم يأت أحد بما يَنقض شهادتهم ويكذبها، وهي شهادة بأمر صار من المحسوسات القطعية، التي لو طلبنا منهم رؤيتها بالعين لأبصرونا إياها، بالتصوير المباشر في التو والحين، كما تعودنا منهم نقل ذلك إلينا عند وقوع الكسوف، ولم يأت في كتاب الله تعالي ولا في سنة نبيه * ما يعارض ما يثبتونه، بل وجد فيهما ما يؤيده ويشهد له، فقد عرف الناس من القرآن أن للقمر منازل ونظاما في سيره ثابتا لا يختل، قبل أن يعرفوا تفاصيله من علم الفلك والحسبان، قال تعالي:(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)،(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)،(الشَّمْس وَالْقَمَر بِحُسْبَانٍ)، فهل بعد الدليل السمعي والحسي من دليل؟

ثم السؤال المحير الموجه للذين يحكمون برؤية هذا الهلال ولا جواب عليه، كيف قبلوا قول الحسابيين وسلموا به في إخبارهم بوقت غروب الشمس لليلة التي ادعيت فيها الرؤية، كما قبلوه في سائر أيام العام وعملوا به في أداء صلواتهم المتكررة كل يوم وليلة، ولم يقبلوا قولهم في وقت غروب القمر لتلك الليلة، لأنهم لو قبلوا قولهم في وقت غروب القمر ما قبلوا الشهادة على رؤيته بعد غروبه، فمثلا تقويم أم القرى، الذي يصلي عليه المسلمون في مكة صلاة المغرب يقول: إن غروب الشمس في يوم الاثنين 29 من رمضان هو الساعة 6 و11 دقيقة ومصدر هذا التقويم هو الحساب الفلكي، والحساب الفلكي نفسه يقول: إن غروب القمر لتلك الليلة في مكة المكرمة هو الساعة 6 و 5 دقائق، أي أن القمر يغرب قبل الشمس ويختفي من الأفق قبل غروب الشمس، فكيف صح تصديق الحسابيين في الأول، وهو غروب الشمس، فَصَلَّ المسلمون المغرب وسائر أوقات صلواتهم عليه، وبطل قولهم في الثانية، فقبلت شهادة من ادعي رؤية القمر بعد غروبه، وحُكِم بها.

فإن جادل أحد في إمكان رؤية القمر بعد غروبه، فإن جداله لا يختلف عن الجدال في رؤية الشمس منتصف الليل، فمن يماري في هذه يماري في تلك، لأن للقمر منازل تتنقل فيها وتغيب عن الرؤية، كما للشمس بروج تتناقل فيها وتغيب أيضا عن الرؤية، والقرآن ذكر الأمرين، فقال:(وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) وقال:(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ)، وقد قيل:

وليس يصح في الأذهان شيء          إذا احتاج النهار إلى دليل

حكم الحاكم إذا خالفه اليقين:

كان المسلمون في البلاد الإسلامية ومعهم عدد من الملايين المعتمرة في مكة المكرمة، يتوقعون أن يكون يوم الثلاثاء متمما لشهر رمضان، لأن الهلال ليلتها لا وجود له في سماء السعودية التي لا تعتد إلا بالرؤية ـ وهي محقة في ذلك ـ كما لا وجود له في سماء الوطن العربي كافة، لكن المسلمين فوجئوا ببيان يثبت دخول الشهر يوم الثلاثاء بناء علي رؤية الهلال، مع اليقين الجازم لدى كثير منهم أن البلاد العربية كلها لا وجود لهلال يرى في سمائها تلك الليلة بعد الغروب، ففوجئ المسلمون الذين يرون صواب ثبوت الشهر بالرؤية بما لم يتوقعوه، وصار للعالمين حقيقة الأمر منهم ـ تعارض بين يقين علموه، وهو أَلاَّ وجود لهلال يمكن أن يُرى، وبين حكم قضائي في بلد من بلاد المسلمين، مُصَدَّق عليه من أولي الأمر فيها بثبوت الشهر بالرؤية، فهل يحل لمن علم أن يخالف يقينه بعدم وجود الهلال إلي العمل بالحكم الصادر بثبوت الشهر المبني علي رؤية الهلال، بحجة طاعة ولي الأمر؟

طاعة ولي الأمر:

صار هناك في الآونة الأخيرة فهم مشوش ولبس وتساهل في مفهوم الطاعة من قبل الشباب المتدين، فحصل خلط بين ما تجب فيه طاعة من له الطاعة شرعا، وبين ما لا تجوز فيه الطاعة.

نصوص القرآن والسنة وكلام الفقهاء من أهل العلم في المسألة بين واضح لا لبس فيه، كله يدل علي أن الطاعة ليست مطلقة، وأن من علم الصواب يجب عليه أن يعمل بما علم، ولا يخالف يقينه لحكم الحاكم، ذلك أن طاعة حكم الحاكم مقيدة في أحكام الله وشرعه بطاعة الله ورسوله، ومقيدة في السنة بالمعروف، وبما لا يخالف الحق، فمن علم الصواب والحق لا تحل له مخالفته لحكم ولي الأمر، ولا لغيره كائنا من كان، يُبيِّن ذلك أن الله تبارك وتعالي أمر بطاعته وطاعة رسوله * استقلالا، وأمر بطاعة ولي الأمر أمرا مقيدا بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالي:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، وهو ما يشير إليه إعادة فعل الأمر بالطاعة (وأطيعوا) لرسول الله صلى الله عليه وسلم استقلالا بعد ذكرها أولا، وعدم إعادته مع طاعة أولي الأمر، ثم زادت الآية الأمر بيانا ووضوحا عندما أوجبت الرد عند الاختلاف إلي الله تعالي ورسوله صلى الله عليه وسلم، دون أولي الأمر، ليدل علي أن طاعتهم ليست مطلقة، فقال تعالى:(... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).

وفي الصحيح من حديث علي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ).

وفي الصحيح أيضا من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، فقال: ( صَلُّوا الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً )، فلم يجوز طاعتهم في تغير وقت العبادة، وأمرهم أن يعيدوها معهم تقية، ليأمنوا شرهم، وإعادتها لا ضرر فيها، لأنها تكون سبحة ونافلة، فليس في إعادتها مفسدة ما دامت قد أديت في وقتها.

ومن فروع المسألة: أن من تيقن خطأ إمامه لا تجوز له متابعة إمامه على خلاف يقينه، وأن من حُكِم له بما يعلم أنه باطل لا يحل له أخذه، وأن حكم الحاكم لا يحلل الحرام، ففي الصحيح من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم تختصمون إليَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ، فَلا يَأْخُذْهَا )، فهذا كله يُبين أن حكم الحاكم إنما يُعمل به فيما لا يَعلم المحكوم له خطأه وبطلانه.

الخلاف شر:

قد يستدل بعض من يلتبس عليه الأمر، بأن في العمل بالحكم المخالف لليقين جمع للكلمة ودرء للفتنة، وأن الخلاف شر، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما أتم الصلاة مع عثمان رضي الله عنه في مني علي خلاف سنة القصر، التي علمها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة، فقد وافق ابن مسعود عثمان رضي الله تعالى عنهما في الإتمام، مع يقينه أنه على خلاف السنة، لأن الخلاف شر، كما قال .

فالجواب عليه من وجهين:

أولا: أن عثمان رضي الله عنه كان متأولا في ترك سنة القصر لمصلحة أرجح، وهو خوفه ـ وقد اجتمع عدد كبير من الأعراب في ذلك الموسم ممن لا عهد لهم  بالسنن ـ أن ينقلوا عنه أن الصلاة صارت ركعتين، فتضيع أحكام الدين، ولذلك قال عندما سئل عن تركه القصر فيما رواه عنه عبد الرحمن بن حميد عن أبيه: ( يا أيها الناس، إن السنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة صاحبيه، ولكنه حدث العام من الناس، فخفت أن يستنوا )، وهذا مقصد أصلي صحيح، حِفْظه من حِفْظ الدين، الذي هو أحد الكليات الضرورية الخمس، فلا يُترك هذا المقصد لأجل تحصيل سنة، وترك السنن لمصلحة أرجح، له أصل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فقد كان صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحب أن يعمله مخافة علي الناس، وكان أبو بكر وعمر يتركان الأضحية أحيانا وهي سنة، مخافة اعتقاد وجوبها، وعمل عثمان رضي الله عنه بمنى لا يخرج عن هذا، فطاعته فيما رأى على وفق الدليل الشرعي، وهي أولى وأنفع للمسلمين، وإن خالفها اجتهاد ابن مسعود رضي الله عنه.

ثانيا: طاعة ابن مسعود لعثمان رضي الله عنهما كانت في مخالفة سنة تأول عثمان في تركها علي نحو ما تقدم على وجه صحيح، لا في ترك واجب، ولا مخالفة فريضة، ومخالفة سنة من السنن هي من الأمر الخفيف عندما تكون لدرء مفسدة أعظم، وهو خوف الفتنة ووقوع الشر، وهي من الفقه السديد والبصيرة في الدين، فَهُم القدوة والأسوة.

الفطر يوم يفطر الناس:

وأما الاحتجاج بحديث عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس )، فلا يعارض ما سبق من وجوب عمل المسلم بيقين نفسه، وإن خالف الحكم، على ما فهمه عليه جمهور أهل العلم، يبين ذلك كلام الخطابي في معالم السنن، فقد قال: الحديث محمول عند جمهور أهل العلم علي أن الناس إذا اجتهدوا في الفطر أو الصوم أو الوقوف بعرفة، ثم تبين لهم بعد ذلك خطأ اجتهادهم، أنه لا حرج عليهم في ذلك ولا بأس عليهم فيه، وعباداتهم صحيحة، ولا يحمل على من علم من نفسه أمرا يقينيا في صوم أو فطر وخالفه، إلا على قول محمد بن الحسن والحسن وعطاء.

ونقل أكثر من واحد من أهل العلم كلام الخطابي مُسَلَّما، ولم يعترضوا عليه.

وكلام جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المسألة لا يختلف عما ذُكر، ويؤيده، فإنهم قالوا: إن من رأى هلال رمضان وحده ولم تقبل شهادته، عليه في خاصة نفسه أن يصوم، ولو حكم الحاكم بأن اليوم متمم لشعبان، وعَدَّ بعض المالكية فطره تبعا للناس من التأويل البعيد الذي يوجب الكفارة، وكذلك قالوا فيمن رأى هلال شوال ولم يُحكم بشهادته: عليه أن يفطر ويخفي فطره ولا يعمل بما عليه الناس، فالمسألة كتابا وسنة وفقها واستنباطا، العمل فيها واجب بيقين الشخص، لا بالحكم المخالف له.

وفي نازلة هذا العام، لو أراد أحد أن يتقلد قول الحسابيين من الفقهاء، القائلين بثبوت الشهر بوجود الهلال بعد الغروب، ولا يشترطون الرؤية بالفعل، وهذا قد تحقق في أكثر من بلد، منها نيجيريا والأرجنتين وغيرهما، وهو وإن كان قولا مرجوحا مخالفا لجمهور أهل العلم، فمن تقلده، فله وجه يحتمله كلام الفقهاء القائلين بأنه لا عبرة باختلاف المطالع، وأن الشهر إذا ثبت في بلد عم جميع البلاد والآفاق، إذا كانت تشترك مع التي ثبت فيها في جزء من الليل، وذلك لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )، وقد عملت بهذا بعض المراكز الإسلامية في أوربا والغرب، والله تعالى أعلم وأحكم ، وله الأمر من قبل ومن بعد.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

11 / شوال / 1429 هـ

الموافق 11 / 10 / 2008

 

التبويبات الأساسية