أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ

بِسْم الله الرحمنِ الرحيمِ

 

أخبارُ القرآنِ عِبر ونُذر لِمن يعتبِر، وذكرٌ لمنْ يدّكِر، (أو أَلْقَى السّمعَ وهوَ شَهِيدٌ)، يقصُّ علينا القرآنُ في هذا الموقفِ مِن القيامةِ، موقفَ أصحابِ الأعرافِ، وهم عدولٌ، جعلَ اللهُ لهم أن يُشرفوا مِن علوٍّ على أهلِ الجنة وعلى أهلِ النار، أماكنُهم علَى شرفاتِ السورِ، الذِي ضربَهُ اللهُ بينَ الجنة والنار، قال تعالى: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ).

كانَ المشركونَ يؤذونَ النبيّ صلى الله عليه وسلم والمستضعفينَ مِن المؤمنين أشدَّ الأذى، ويحتقرونهم، ويرون أن أمرهم لا يمكن أن ينتهي إلى خير، إلى حد أنّهم كانوا إذا سمعوا القرآنَ يبشرُ هؤلاء المستضعفين بالجنة يقولونَ: حتّى لو كان هناكَ جنةٌ، فإنّها لن تكونَ لهؤلاءِ، ويلمزونهم كما حكاه القرآن عنهم: (ومَا نَرَاكَ اتّبعَكَ إلّا الّذينَ هُمْ أَرَاذِلُنا بَاديَ الرأيِ ومَا نَرَى لكُم علينَا مِن فضلٍ بل نظنُّكم كاذِبينَ).

وَكَانُوا لجُموحِهم وشططِهم البالغ، يُقسِمون على اللهِ بذلكَ، ويتألّون عليه، ولذا كان في هذا الموقفِ مِن القيامةِ، يقولُ أصحابُ الأعراف للمستهزئينَ بالأنبياءِ وأتباعِهم المستضعفينَ - الذينَ كانوا نصرةً لله ورسولِه ودينه - يسألونهم وهم يواجهون مصيرهم، سؤال إغاظة وإذلالٍ: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ)، ويقال لضعفاء المؤمنين، الذين كانوا يُضطهدون: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)، وهكذا في القيامة تنقلب الموازين، يُرفع من كان يُرى ذليلا، ويُذل من كان بغير الله عزيزًا!

والآيةُ وإن كانت في المشركينَ، فإنّها تتوعّدُ كلَّ مَن يفعلُ فعلَهم، ممّن يُعادون الدّين، ويتآمرون على أوطانهم، ويضطهدون القلة المؤمنة المستضعَفة مِن أبناءِ وطنهم، التي ثبتت على الحقِّ، لم تُبدّلْ ولَم تُغير، وبقيت تدافعُ عنه، وتردُّ عنه كيدَ أعدائه، لا تخاف فيه لومة لائم.

إنّك لن تعدمَ أن ترى اليَومَ في ديار المسلمين، مَن يفعلُ فعل مَن كانَ قبلَهم من الظالمينَ، يُشوهونَ الإسلامَ وأهله، وينشرونَ الإلحادَ، ويُروجونَ الإفكَ والأباطيلَ.
يُحذّرونَ الناسَ مِن كل الخيرين العاملين، من المجاهدين الثوار الأبطالِ في الميادين، ومن المجاهدين بالكلمة والمقال مِن الدّعاة والمصلحينَ، ومن النشطاءِ والإعلاميين الصادقينَ، الذين يدافعون ليلَ نهارَ عن أوطانِهم، لا يفترونَ، يهددونهم ويُحذِّرون منهم، يشوهونَهم ويرمونَهم بكلِّ نقيصةٍ.

يخوّف المفسدون مِن شريعةِ الله، ويقولون للعامةِ إنّ تحكيمَها يُنغّصُ على الناسِ حياتَهم، ويُضيقُ عليهم عيشَهم، ويحدُّ مِن حرياتِهم الشهوانيةِ، التي لا يربِطُها رباط، ولا يمسكُها زمام، والقائمونَ بهذا الصدِّ عن سبيلِ الله ودينِهِ، ويبغونَها لأوطانِهم عوجًا، يملكونَ الإعلامَ المنحرف المأجورَ، والمالَ الفاسد المنهوبَ من الشعوب، والدعمُ يأتيهم مِن كل الدول المعاديةِ لحرياتِ الشعوب المستضعفة، التي تجاهدُ لأن ترفعَ عنها القيودَ، وتُقدم أبناءها لقيم الإسلامِ أن تَسُود.

ومِن وسائل أذرع الفساد ووكلاء الأعداء في بلوغ غاياتهم، ترصُّدهم للعلماء والدعاةِ والقائمين بالحقِّ، المدافعين عنه، ولمَن يبذُلون مُهجَهُم نصرةً للدينِ، ودفاعًا عن وطنهم، ليسُودَ العدلُ والرحمةُ، وتعودَ لأهله كرامةُ الإنسانِ، التي حُرِموهَا أزمانًا طويلةً، قتَلوا منهم مَن قتلوا، وأسَروا مَن أسَروا، وهجَّروا مَن هجّروا؛ وكانوا معهم كما قال الله تعالى في اليهود: (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

ترَى الدعاةَ المصلحينَ، القائمينَ بأمر الله في سبيلِ تحقيقِ تلك القيمِ، والذّودِ عنها بأقلامِهم ولسانِهم، غُرباءَ في أوطانِهم، يهدَّدُون بالقتلِ وبالسجونِ والتعذيبِ، ويتحمّلونَ مع أُسرِهم كلفةَ التهجيرِ والطردِ مِن الأوطانِ، مع قلة مَن يقبلُهُم، حتى صارُوا في بلادِ الإسلامِ كالبعيرِ الأجربِ، وإنْ قَبِلهمْ أحدٌ فبشرطِ تكميمِ الأفواهِ، والدخولِ في بيتِ الطاعةِ المظلم، الذي من يدخلُهُ لا يرى ولا يَسمع.

ترى مِن الساسة والنخب من يستهزئ بالقائمين بأمر الله، المدافعين عنه بأرواحهم، يقاتلون البغاة والظلمة، المنتهكين لحرمات الأحياء وحرمات الأمواتِ، يعانونَ الفاقةَ الشديدة، والحاجةَ المضنية، والحصارَ القاتل يموتون جوعًا تحت سمع وبصر مَن ملّكهم العدوُّ أموالَ الأمةِ، وقراراتِ صرفِها، وزمامَ أمورها، ومصيرَها، فحرمُوهم مالَهم، الذي جعل الله لهم فيه حقًّا، حتّى ماتوا جوعًا، فكان هؤلاءِ المسؤولون شركاءَ مع أعدائِهم في قتلِهم، ومَن ماتوا جوعًا لا يزال إخوانُهم محاصرونَ، مهدَّدون بنفسِ المصير.

فيا مَن على رأس السلطةِ تجتمعونَ في تونُس، أو في غيرِها، مِن ساسةٍ وماليين ورقاباتٍ مالية، هؤلاء المحاصرونَ الآن في بنغازي هم في أعناقِكم، وسيطالبُكم الله بهم إن تركتموهم، أو سكتم عنهم حتى واجهُوا مصيرَ مَن قبلهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: (ثلاثةٌ لا يكلِّمُهم اللهُ ولا ينظرُ إليهم يوم القيامةِ ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ؛ رجلٌ على فضلِ ماءٍ يمنعُ منه ابنَ السبيل…) لأنّه يعرضُه للتلفِ، قال العلماء: فهو في تعريضِهِ يُشبه قاتلَه، هذا في منعِه ما ليس له، فكيفَ بمن عرَّضَه للتلف بمنعِه مِنْ حقه؟! فكيف بمن يدفعُ المالَ إلى مَنْ يُحاصرهم؟!

وأمثالهم في شرقِ البلاد وغربِها وجنوبِها، يقاسونَ مِن تألبِ الظالمين من بني جلدتِهم عليهم، فريق منهم يتربّصونَ بهم الدوائرَ؛ بالقتلِ، والتهديدِ بالسجونِ والخطفِ، وفريقٌ يَقْعُدونَ لهم كلّ مَرْصدٍ، يُسفهونَهم ويسخرونَ منهم، ويسلّطونَ عليهم جندَ إبليس، في وسائلِ النشرِ والإعلام الماجنةِ، المسَخَّرة لهدمِ الدّينِ وتدنيسِ الأوطانِ، يرمونَ أبناءَ وطنهم الأوفياءَ بالنقائصِ كلّها؛ بالظلاميةِ والتحجّرِ، وبكلِّ كذبٍ وفِريةٍ، ويختارونَ لهم مِن الألقابِ - في كلِّ وقتٍ - ما لَه قَبولٌ واستحسانٌ لدى أسيادِهم، تارةً بالخوارجِ والتشددِ والتكفيرِ، وتارةً بالجهلِ والغفلةِ والتخلفِ.

وأحسنُهم حالًا مَن يقولُ: إنّ الذِي يفعلُونَه مِن الدفاعِ عن دينهم وأوطانِهم هو اجتهادٌ خاطئٌ، وليس مِن ورائهِ طائلٌ، ويخوِّفونَهم عاقبتَه، وأنّه لا يَجلبُ عليهم إلّا الخرابَ والدمارَ، يُردّدونَ بذلكَ ما سمعُوه مِن أعدائِهم!

سمعُوا منهم أنّهم لن يسمحوا بعدَ الآن للبلدِ إلّا بما يريدوَنه، فصدَّقوهُم (وفيكم سَمَّاعُونَ لَهُم) فأيَّسُوهُم مِن إصلاحِ أوطانِهم وإقامةِ دينِهم، وصارَ هذا الهاجسُ لديهم كاليقينِ.

رضُوا مِن الغنيمةِ بالإيابِ، رضُوا أن يُنَصّبَ عليهم عملاء، يقتلونَ شعوبَهم، ويُدمّرونَ أوطانَهم، بمعاونةٍ سافرةٍ مِن طائراتِ الأعداءِ وبوارجِهم واستخباراتِهم، فصارَ الوطنُ لا سيادة له، مستباحًا لا مدافعَ عنه ولا بواكي له.

اختارُوا أن تعيشَ بلادُهم مُدنّسةً، محكومةً بمن سلطه الأجنبيُّ عليها، يقتلونَ مَن شاؤُوا، ويَمنُّونَ على مَن شاؤُوا، ورأوا ذلك خيرًا مِن اجتماعِ كلمتِهم على مُقاومةِ الفاسدينَ، فأعرضوا عن حقيقةِ لا يمكن أن يختلفَ عليها اثنانِ؛ أنّه مَا مَلكَ عدوُّهم أمرَهم على هذا النحوِ المُذلِّ، إلّا بسببِ فُرقتِهم واستسلامِهم له، ولو ثبتتْ قلوبُهم وتنوَّرت بالحقِّ، وكانُوا صفًّا واحدًا مع إخوانِهم، لكانَ لهم وللبلدِ شأنٌ آخَر.
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الاثنين 13 رجب 1438 هـ
الموافق 10 أبريل 2017 م

التبويبات الأساسية