بسم الله الرحمن الرحيم
سعيٌ حثيثٌ هذه الأيام، وجهودٌ مُضنيةٌ، وطاقاتٌ وأموالٌ تُبذَلُ؛ في الداخلِ وفي الخارجِ، للمغالبة والسيطرة، مُنشغلةٌ عن الوطنِ المُمزَّقِ، بإدخالِ حكومةٍ وإخراجِ أُخرى، وبخلافاتٍ تتفاقمُ وتتراكَمُ، كثيرٌ منها عندَ التحقيقِ والتدقيقِ هو شخصِيٌّ، نشأَ مِن حظِّ النفسِ وضِيقِ العَطنِ، تُغذِّيهِ أطرافٌ خارجيةٌ، ويغذِّيه تعصُّبٌ وانتصارٌ؛ إمَّا للجماعةِ أو الجهةِ أو القبيلةِ، فغضبتُه ليستْ لله تباركَ وتعالَى، بل للحمِيّةِ، التي يَمقُتُها اللهُ ورسولُه، المتوعّدُ عليها في الحديثِ الشريفِ بمِيتَةِ الجاهليةِ.
لماذا نُرهق أنفسَنَا باجتهاداتٍ، نَخبِطُ فيها خَبطَ عشواءَ، تُشَرّقُ وتُغرِّبُ، والعلاقةُ بينَ الحاكمِ والمحكومِ نَظّمَها القرآنُ، وبيَّنَتها السنَّةُ، واضِحة فيهِما وضوحَ الشمسِ.
وما مِن أحدٍ مِن المسلمين من الخصومِ أو من غيرهم، إلَّا ويؤْمِن أنّ الفلاحَ والنجاحَ، الذِي يُحقّقُ الأمنَ والاستقرارَ، إنّما هو في اتباعِ مَا جاءَ بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأمَرَ به القرآنُ، لا في غيرِه، فما لَنا عنِ التذكرَةِ مُعرِضين؟! ولَو حَكَّمْنا عقولَنا على خِلافِ ما جاءَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لضَللْنا ضَلالًا بعيدًا، مهما زَعَمَ المُخالِف أنّه أُوتِي مِن العلمِ والحكمةِ والمعرفةِ والفهمِ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى يقولُ: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا).
العلاقةُ بينَ الحاكمِ والمحكومِ ليستْ مُعقَّدة، تحكُمُها في القرآنِ والسنّةِ قاعدتانِ واضحتانِ تمامَ الوضوحِ:
الأولى - أوجبَ اللهُ على الحُكام ووُلاةِ الأمورِ العدلَ بينَ الرعيةِ، والإحسانَ إليهم؛ قال تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)[النساء:58]، وقالَ تعالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[النحل:90].
وأوجبَ على الرعيةِ السمعَ والطاعَةَ، في كلِّ الأحوالِ؛ في الرِّضا والغضبِ، والعسرِ واليُسرِ، ما لمْ يأمُروا بمعصيةٍ؛ قال تعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[النساء:59]، وفي حديثِ عُبادة رضي الله عنه: (أَمَرَنَا النّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالسمعِ والطاعةِ)[رواه البخاري ومسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنّمَا الطّاعةُ فِي المَعرُوفِ)[رواه البخاري ومسلم].
القاعدة الثانية - أنّ إخلالَ الحُكامِ بحقِّ الرعيةِ، ووقوعَ الجَورِ منهم، أَو الأثَرَةِ والحِرمان؛ لا يُبيحُ الإخلالَ بحقِّهِم فِي الطاعةِ، ولا الخُروجَ عليهم، بدعْمِ حُكوماتٍ ولَا انقلاباتٍ خارجَةٍ عليهم، فالطّاعةُ لا تَزالُ لهم واجبةً؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، عندما سُئِل عن الخروج عن ولاة الجَور: (لَا، إلَّا أنْ تَرَوا كُفرًا بَوَاحًا، لكم مِن اللهِ فيهِ بُرهانٌ)[رواه البخاري ومسلم].
وأرشدَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى ما نفعلُ إذا رأينَا مِن الحُكامِ مَا نكرَه، فقال صلى الله عليه وسلم فيما خرجه مسلم في صحيحه: (إذا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خلع يَدًا مَنْ طَاعَةِ لقي الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ)[رواه مسلم] .
وفي البخاري عن ابن مَسعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ)، والأثرةُ؛ كما فسّرها أهلُ العلم: استبدادٌ مِن السلطانِ بالمالِ أو القرارِ، الذي حقُّه المشاركَةُ.
فالحرمانُ أو الإبعادُ أو الخلافُ مع وُلاةِ الأمرِ، يُؤمرُ فيه وُلاةُ الأمر بالعدلِ والإحسانِ للرعية، وإصلاحِ ما فسدَ، ولا يُحلّ الخروجَ عليهم، بلْ مع جَورِهم وظلمِهم يُدعَى لهم، ويُحرَصُ على صلاحِ أمرِهم.
تعرضَ الإمامُ أحمدُ رحمه الله مِن خُلفاء بني العباسِ؛ المأمونِ والمتوكّلِ والواثِق، في فتنةِ خلق القرآنِ لمِحنةٍ وابتلاءٍ، لم يكن سبَبُه مُغالبة على الدنيا، ولَا حظّ النفسِ، وإنّما غضبًا لحفظِ الدِّينِ، وعقيدةِ المسلمينَ.
سُجنَ وجُلدَ وطُورِدَ، وتُوُعِّدَ بالقتلِ، وتَخفَّى يتنقلُ بينَ البيوتِ، ومعَ هذا القهرِ والظلمِ، كان يقولُ: "لو كانَتْ لِي دعوةٌ مُجابَةٌ لجَعلتُها للسّلطانِ"!!! وكذلكَ قالَ الفُضيل بن عياض قبلَه، فقالوا لهُ: كيفَ ذلك؟ قالَ: "لأَنِّي إنْ جعلتُها لنفسِي لمْ تُجاوِزْنِي، وإنْ جعلتُها للسلطانِ انصَلَحَ بِها حالُ البلادِ والعبادِ، وانصَلَحَ بهَا حالِي معهم.
فمتى يُدركُ خصومُ وُلاةِ الأمرِ في بلادِنا؛ مِن السّاسَةِ، ورجالِ الأعمالِ، وبعضِ مَن بيدهم السلاحُ، الذينَ يدعمونَ انقلابًا تلوَ انقلابٍ، وخروجًا على وُلاةِ الأمرِ إثرَ خروجٍ، ومنهُ مَا أُعلنَ لأوّلِ مرةٍ على الهواءِ، وذُهلَ الجميعُ عند سماعِهِ، حتى ممن كانوا على مدى شهور طويلة على مائدة الحوار، ثم أَبَوا إلَّا أنْ يُسمُّوه توافُقًا، وهم يعلَمونَ أنّه لَم يُستشَرْ فيهِ أحدٌ!!!
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
13 جمادى الآخرة 1437 هـ
الموافق 22 مارس 2016 م