قفل المسعى القديم أثناء التوسعة وارتفاع الخلاف بحكم الحاكم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

فهناك أمر محيّر، ومخالفة جديدة إضافية لا ينبغي إغفالها في موضوع التوسعة، وهي قفل المسعى القديم بالكلية، وتعطيل السعي فيه تعطيلا كاملا أثناء تنفيذ التوسعة الجديدة، وصار السعي كله ذهابا ورجوعا محوّلا إلى  الموضع الجديد، فلم يعد الساعي الآن في التوسعة الجديدة ـ حتى عند المجوزين لها استنادا إلى تخفيف الزحام ورفع الحرج ـ يجد لنفسه عذرا ، حيث إنه بقفل المسعى القديم لم يعد لتبرير جواز التوسعة بضيق المكان أيُّ معنى.

كما أن الساعي في المسعى الجديد، والحال أن القديم السعي فيه معطل ـ لا يجد جوابا عما يرد عليه، من أنه لم يعد في سعيه مرتبطا بالمسعى القديم، ارتباط اتصال الصفوف، كما اتصلت في الصلاة، وأنه إنما ابتعد عنه للتخفيف عن الساعين ورفع الحرج عنهم، بل وجد نفسه يسعى في غير موضع السعي، منقطعا عن الموضع الأصلي انقطاعا كاملا، لا يربطه به اتصال صفوف، ولا تخفيف ازدحام، فصارت التوسعة بالنسبة إليه ليست كتوسعة المسجد عند الضيق وامتداد صفوف المصلين، بل أشبه بنقل المسجد من موضع إلى موضع، وهذا لا يجيزه أحد من أهل العلم، لا في طواف ولا سعي، ولا غيرهما من العبادات المرتبطة بموضع لا يصح أداؤها في غيره، فما حيلة المعتمرين طيلة هذه الشهور، يجدون أنفسهم دون اختيار منهم، يؤدون نسكا من أركان العمرة في غير موضعه، ليس فيه حتى شبهة اتصال الصفوف، ويعلمون أنهم لا يتحللون منها بدونه، فهل يعدون أنفسهم ممن أُحْصِروا وحبسهم العذر، أم ماذا؟

والقول بأن ولي الأمر اختار من اختلاف العلماء في النازلة ما رآه صوابا، وحكم به، وحكمه يرفع الخلاف، فلا يجوز لأحد بعد حكمه تناول المسألة، ولا القول فيها بخلاف ما حكم، فتكون المسألة مما ارتفع فيه الخلاف وصار القول قولا واحدا بالجواز لا تجوز مخالفته ـ هذا القول فيه نظر من وجهين:

الأول: أن حكم الحاكم، الذي يرتفع معه الخلاف في المسألة لا يدخل العبادات، فقول الحاكم فيها لا يعدوا أن يكون إخبارا بفتوى، يسوغ لأهل العلم مخالفتها، إذ ليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة مستوفية لشروطها، أو باطلة فاقدة لشروطها، ولا بأن السعي بين الصفا والمروة، أو الطواف بالبيت على هيئة مخصوصة، أو كيفية مخصوصة صحيح أو فاسد، وإنما حكم الحاكم محله مصالح الدنيا، التي ترجع إلى حقوق العباد، قال القرافي في الفرق الثاني والأربعين بعد المائتين: (اعلم أن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم البتة، بل الفتيا فقط، فكل ما وجد فيها من الاختيارات، فهي فتوى فقط، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة) .

ثم عَرَّف الحكم بما يفرقه عن الفتوى بقوله، هو: (إنشاء في مسألة اجتهادية، تتقارب فيها المدارك، لأجل مصلحة الدنيا)، وأضاف: (وقولي لأجل مصالح الدنيا، احترازا من العبادات، كالفتوى بتحريم السباع، وطهارة الأواني، وغير ذلك مما يكون اختلاف المجتهدين فيه لا للدنيا، بل للآخرة).

ومَثَّل لِمَا يدخله الحُكم من مصالح الدنيا، فقال: ( كالاختلاف في العقود، والأملاك والرهون والأوقاف ونحوها ).

الثاني: إن رفع حُكْم الحاكم للخلاف مشروط عند أهل العلم عامة؛ بما إذا لم يُخالف حُكمه نصا ولا إجماعا ولا قياسا جليا، وهنا الحُكْم خالف المنصوص عليه في قول الله تعالى:(إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ )، فلا يرفع حُكمه الخلاف إذا خالف النص، حتى في مصالح الدنيا، فما بالك إذا كان في موضع شعيرة تَعبُّدية، موضعها لا مجال فيه للقياس، والحاجة التي دعت إلى التوسعة  ـ وهي ضيق المكان ـ لها بديل مشروع لا يخالف النص، وهو التوسعة العلوية بتعدد الطِّباق والأدوار، فيجب الرجوع إليه لجمع المسلمين على كلمة سواء، ونبذ التعصب للرأي، فإنه مذموم، والرجوع إلى الحق في هذه المسـألة فريضة، لا فضيلة وحسب، والله تعالى أسأل أن يُطَوِّع قلوب من بيدهم الأمر ـ والأمر كله بيده ـ لاتباع الحق، ولما تكون عبادة المسلمين به صحيحة بالاتفاق، لا أن تكون صحتها من بطلانها محل خلاف، فإن الخروج من الخلاف في العبادات بما يصححها عند الجميع محمود بالاتفاق، ومن عَزَّ عليه دينه احتاط، والعاقل لا يقبل أن يؤدي عبادة على وجه مُخْتَلَف فيه، حتى لو كان الاختلاف معتبرا، ما دام يمكنه أداؤها على وجه متفق عليه، كيف والقول بجواز التوسعة مخالف للدليل.

هذا عندما يكون الأمر في مسألة خاصة، قد يكون للإنسان فيها اجتهاد وترجيح لبعض أقوال أهل العلم، فكيف إذا كان الأمر في شعيرة يهم أمرها المسلمين كافة، مع اختلاف مناهجهم في الفقه ومذاهبهم في العلم.

·      بقي أمر آخر مما استند إليه القائلون بجواز التوسعة لم أتعرض له في مقالي السابق حول السعي في المسعى الجديد، أضيفه هنا تتميما للفائدة، وإكمالا للموضوع من جوانبه، وهو: أن التوسعة متصلة بالمسعى القديم، وما قرب من الشيء يعطى حكمه، فحكم التوسعة والسعي فيها حكم الأصل، وهو الجواز.

أقول: إعمال هذه القاعدة لتفيد صحة السعي في التوسعة الجديدة فيه نظر من وجوه:

أولا ـ قاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه هي قاعدة مختلف فيها، حتى إن ابن رشد قال: هذه القاعدة كثيرا ما يذكرها الفقهاء، ولم أجد دليلا يشهد لعينها.

ثانيا ـ إعمالها عند من يقول بها إنما هو على التوسع في العموميات من الأحكام التي لا نص عليها من الشارع، أما العبادات المنصوص على أوقاتها أو مواضعها أو كيفياتها فلا تُخالَف بهذه القاعدة، وإلا لجاز أن يصلى الظهر خمس ركعات، أو تصلى قبل الزوال أو بعد وقتها بالقرب منه، ولجاز أن يُصام آخرُ يوم من شعبان، وأول يوم من شوال، لقربهما من رمضان، وأن يقف الحاج خارج عرفة بالقرب منها، أو يقف بمزدلفة  بدلا منها، لأن ذلك كله مما يدخل تحت قاعدة (ما قارب الشيء يعطى حكمه)، وهو في مثل ما ذكر مُلْغًى بالنص، فإن الله تعالى قال لقريش حين وقفوا بالمزدلفة: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، ولم يُقرّهم على تبديل المكان بما يقرب منه، وقال صلى الله عليه وسلم  للذي غسل قدمه في الوضوء ولاحت منه لمعة لم يصلها الماء: ( ويل للأعقاب من النار ) ، وأمره بالإعادة، ولم يجد له عذرا في قاعدة (ما قرب من الشيء يعطى حكمه) ، وكذلك قال للذي أتى بهيئة الصلاة وقاربها مع فوات شيء من أركانها: ( ارجع فصل فإنك لم تصل )، وما أُحْدث في المسعى هو من هذا القبيل، فلا يصلح فيه إعمال قاعدة: (ما قرب من الشيء يعطى حكمه) .

ثالثا ـ هذه القاعدة لا تعمل فيما خالف فيه المكلف أو قصر فيه من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده، فمن خالفها أو طفف فيها لم يبرأ من العهدة، حتى لو كان التطفيف قريبا من التمام، فمن أدى ألفا إلا درهما في حق من حقوق الله تعالى أو حقوق العباد لم تبرأ ذمته، وإن قارب الذي أداه من الذي طُلِب منه، والشعائر والعبادات التي منها السعي بين الصفا والمروة من حقوق الله، فلا تعمل فيها هذه القاعدة بما لا يتوافق مع المأمور به، والله تعالى أعلم وأحكم.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

6 / رجب / 1429 هـ

الموافق 9 / 7 / 2008

 

التبويبات الأساسية