موت العلماء الشيخ المهدي محمد الشوماني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فإن قبض العلماء رزية في الدين ومصيبة تعم المسلمين، إذ قبضهم هو قبض العلم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في ما صح عنه في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (إِنَّ الله لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)، فموت العالم مصاب جلل، فقده يصيب الأمة بأسرها، لذا قال الحسن رحمه الله: (موت العالم ثُلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار).

فقدت ليبيا بمزيد الحزن والأسى علما من أعلام العلم والفقه والعربية، شهد له الكافة بغزير العلم وصواب الفقه وجودة النظر وسداد الفهم، مضّى أكثر من أربعين عاما في الدرس والتعليم، كان خلالها مرجعا للفتوى وملاذا لطلاب العلم يلجئون إليه في عويص المسائل، يحل مشكلها ويُجَلِّي غامضها، ويحرر متشابهها.

ولد الشيخ عام 1344 هـ، الموافق 1926، وتوفي في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول 1431 هـ، الموافق السابع من شهر مارس 2010، عن 87 سنة.

عرفت الشيخ المهدي الشوماني رحمه الله تعالى أول ما عرفته عام 1388 هـ، 1968، وكنا نَدْرُس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالبيضاء، عندما أخذتنا الجامعة في رحلة علمية إلى مدينة الجغبوب، وكان الشيخ المهدي حينها قد تخرج ورُشِّح للالتحاق بقسم الدراسات العليا التي أسستها الجامعة بالجغبوب وأسندت إلى طلبة الدراسات العليا آنذاك، الذين هم أعضاء هيئة تدريس وأساتذة، ومنهم الشيخ المهدي، التدريس في معهد الجغبوب الديني. وفي برنامج الزيارة التي أعدت لنا الدخول على الأساتذة في القاعات أثناء التدريس، وكان من نصيب مجموعتنا أن دخلنا على الشيخ المهدي في القاعة وهو يدرس الطلبة مادة المنطق ومعنا بعض أساتذة الكلية، والمنطق كما هو معلوم مادة جافة مملة، كله قضايا عقلية وتقسيمات، لكن سعة علم الشيخ وتمكنه وترتيب كلامه وحسن أدائه، جعلت الدرس مفيدا شيقا، وتمنينا أن لو امتد الوقت بعد انتهاء الدرس للاستفادة، وسماع المزيد.

قلت: إن أول معرفتي به كانت في هذه الرحلة، وهذا قد يبدو غريبا، فإني عاصرته في كلية الشريعة بالبيضاء مدة سنتين، لأني عندما التحقت بالكلية عام 1384 هـ، 1965 م، كان هو بالسنة الثالثة، ولكن الشيخ كان لتواضعه، وهدوئه، وانقطاعه للتحصيل، وعكوفه على الكِتاب  لا يكاد يُعرف، وهذا هو سمته حتى بعد أن تخرج وصار عالما، سمت العلماء العاملين؛ بُعدٌ عن الأضواء وكلام قليل إلا فيما ينفع، وعلم جم وتواضع، مع تصون وعفة نفس.

ثم عرفته ثانيا عن قرب ومخالطة زميلا، وعضوا في هيئة التدريس في كلية التربية، فكان فيما اجتمع له من الصفات قليل المثال، اجتمع له العلم والأدب والانتفاع به، والانضباط الكامل والمواظبة، وعدم التغيب عن المحاضرات، والتقيد بالوقت في كل ما يُسند إليه من الدروس والأعمال، كتصحيح الأوراق وأداء الامتحانات في أوقاتها وإحضار النتائج، وذلك على الرغم من كبر سنه، وضعف قوته، وصعوبة الأمر عليه، واستخدامه للمواصلات العامة وما فيها من عنت ومشقة، وهذا الحرص على أداء الواجب وإتقانه، بالإضافة إلى كونه مظهرا حضاريا يرتفع به الذكر ويعلوا به القدر، هو علامة دين وإنصاف وملازمة للحق.

كان الشيخ المهدي صاحب تحقيق وفهم دقيق لغامض المسائل، يُذلل عويصها، ويجلّى غامضها، ويفرق بين حكم المتشابه منها، وكثيرا ما كنت ألتقي معه أثناء انتظار المحاضرات في الممرات أو أماكن الجلوس ـ إن توفرت!. وكان لتواضعه يدرس طلابه من كتابي ـ الأسرة أحكام وأدلة ـ فكنا نتدارس من الكتاب ومن غيره مسائل من العلم، وقد استفدت منه رحمه الله وجزاه عن العلم وأهله خير الجزاء، فقد عرفت كثيرا من أهل العلم وطلابه الذين ينتمون إلى مدينته (مسلاته) ـ مدينة القرآن والعلم ـ في مختلف تخصصاتهم، ولكن الشيخ المهدي كان نسيج وحده، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

18 جمادى الأولى 1431 هـ

الموافق 2 / 5 / 2010

 

 

 

التبويبات الأساسية