( الاختلافُ المذمومُ والاختلافُ المحمودُ)

بسم الله الرحمن الرحيم

( الاختلافُ المذمومُ والاختلافُ المحمودُ)

 

لا يخفى أنّ الخلافَ شرّ؛ لأنّه يؤدّي إلى الفُرقة والبغضاءِ، وعاقبتُه الفشلُ والخذلانُ، قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذهَبَ رِيحُكُم) [الأنفال:46].

والاختلاف العلمِي، منهُ ما هو مذمومٌ، ومنه ما هو محمودٌ.

الاختلاف المذموم:

الاختلافُ المذمومُ، وله أوجه متعددة:

1- ما كانَ منه  في أصولِ الدين، وهو أشدُّها إضرارا بالأمة؛ لأنّ الاختلافَ في أصولِ الدّين يؤدّي إلى الخروجِ عن الملّة، وإلى أن يُكفِّرَ الناسُ بعضُهم بعضًا، ويُفسقَ بعضُهم بعضًا؛ كاختلافِ الغُلاةِ اليومَ، فإنّ اختلافَهم بالغلوِّ في التكفيرِ هو اختلافُ أصولٍ، مِن الاختلافِ المنكر المذمومِ، الذي يَستحلُّ دماءَ المسلمين المعصومةَ، وأعراضَهم المحفوظة، يستحلها بالشبهةِ والظنّةِ والتأويلِ الفاسدِ.   

ولذَا حذَّرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِن تَقحُّمِ هذا الباب، وغلَّظَ فيه تغليظا شديدا ونفر منه، فقال: (مَن قالَ لصاحِبِهِ يا كافِرُ، فقدْ باءَ بهَا أحدُهُما) [الموطأ:1844،البخاري: 5753،مسلم:60].

وهذا النوعُ من الاختلافِ، هو الذي نشأتْ عنه الفرقةُ والاقتتالُ الدامي بين المسلمين، في تاريخِهم الطويلِ.

وكلّ تحذيرٍ مِن الاختلافِ والتفرقِ في الدين، الواردِ في آياتِ القرآن، هو محمولٌ ابتداءً عليه.

 

2- مِن الاختلافِ المذمومِ مَا كان ناشئًا عن غيرِ علمٍ؛ كالقولِ في القرآنِ بالرأيِ، وبالتأويلِ الباطلِ، وكالفتوَى في الدينِ والجرأة عليها، مِن العوام ومن غير أهلها، يعارضُون بذلك أقوالَ أهلِ العلمِ، وأئمة الدين والفقه، الذين قعَّدوا هذا العلم، وأمضوا فيه أعمارهم، وخبروه.

 

3- من الخلاف المذموم ما كان في الفروعِ اختلافَ هوًى وعصبيةٍ، ينكرُ أقوال العلماء واجتهاداتِهم، ويستهجِنُها، ويحذرُ الناسَ منها، ويفرضُ عليهم ما اختارَه هو لنفسِه، وأخذَ به، وقلد فيه بعض أئمة أهل العلم، أو أخذَ بهِ شيخُه، ولا يَعتَدّ باختلافِ العلماء الذي لا يوافق رأيه، ويتنقّصُه ويَعيبُه، ولا يحترمُه، فهذا اختلافٌ منكرٌ قبيحٌ؛ لأنه خلافُ ما ارتضاهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه، حين اجتهدوا واختلفُوا في مسألةٍ مِن مسائلِ الصلاة، في خروجهم إلى بني قريظةَ، وذكر الفريقان اختلافهم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فأقرّ الفريقين معا، (وما عَنّف واحدًا منهما)، كما عند البخاري [904].

ولأنّ ضررَ هذا الاختلاف وخيمٌ على الأمة؛ يُضعِفُها، ويُذهِبُ ريحَهَا، ويُمَكِّنُ العدوَّ منها، ويفرضُ عليها الهيمنَةَ والتبعيَّةَ والذلَّة، ويشغَلُها عن دورِها المؤمّلِ في القيامِ بما عليها؛ لتكونَ قويةً عزيزةً، مُهابَة الجانبِ، قادرةً على نشرِ الحقّ الذي تحملُه، وإيصالهِ للعالَمينَ.

ولأجل ألا تقعَ الأمة في هذا الهوان، حذّر الله تعالَى مِن الاختلافِ المذمومِ أشدّ تحذيرٍ، فقال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105]. 

فالخطابُ في الآيةِ (ولا تكونوا) موجهٌ للمسلمين؛ نُهوا أنْ يتشبّهوا بأهلِ الكتابِ، في اختلافِهم اختلافَ الفرقةِ والبغضاءِ؛ لأنّ اختلافَهم كان اختلافَ مكابرةٍ وعنادٍ، لا اختلافَ طلبٍ للحقٍّ وانقيادٍ إليه، فإنهم عرفُوا الحقّ وتعصّبوا لغيرِه.

فالعذابُ العظيمُ في الآيةِ، ليس فقط للذينَ تفرقُوا مِن أهلِ الكتابِ، واختلفُوا اختلافَ الاستنكاف والعصبيةِ، بل كذلكَ لمَن تشبَّه بهم مِن هذهِ الأمةِ؛ لأننا نُهينا في الآية أن نكون مثلهم، وقد جاء عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: (إنّ كلّ ما ذَمّ اللهُ عليه أهلَ الكتابِ فالمسلمونَ محذَّرونَ مِن مثلِه)، ويأتي في مقال آخر بإذن الله: (الخلاف المحمود). 

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الثلاثاء 5 شوال 1436 هـ

الموافق 21 يوليو 2015 م

 

التبويبات الأساسية